الجزائر

الجمهورية ترحل نحو سينترا



لبعض المقاهي حضور كبير ومعقد في المدينة لدرجة يصعب فهمه، فهي الرئة التي تتنفس منها المدينة ثقافيا بحرية كاملة. كان مقهى المسرح مثلا، القريب من الجمهورية، لا تفصلهما إلا ساحة السلاح ( (Place d'arme، فضاء يلتقي فيه غالبية المثقفين والصحفيين وعمال المسرح. لم تكن القهوة الثقيلة والصحيحة، أي غير المخلوطة بالحمص، التي كان يحضرها صاحب المقهى هي سبب اللقاء ولكن المساحة التي، على الرغم من ضيقها، كانت تتسع للجميع. بلا موعد، يلتقي الناس وبلا إحراج ينضمون لطاولات الأصدقاء. يمكنك أن تجد المثقف الذي تبحث عنه هناك بسهولة بالخصوص في الفترات الصباحية، أو المسائية بعد العمل.بينما مقهى» بار سينترا « كان يعطي للمكان إحساسا نوستالجيا كبيرا بروائحه، بطاولاته التي هي عبارة عن براميل كانت تستعمل سابقا لتخزين النبيذ في الأقبية الباردة. سبق أن اقتربت من هذا الموضوع بشكل خاطف، لكن الكثير من التفاصيل بقيت نائمة في ذاكرتي وأعتقد أن الفرصة اليوم أصبحت مناسبة لاستخراجها والحديث عنها لأنها جزء حيوي من ذاكرة الجمهورية التي خسرت الكثير مقابل أن تربح خيارا لغويا سارت في دربه. بكلمة أبسط أن الخيارات اللغوية ترتبت عنها بالمقابل، خسارات كبيرة تتعلق بالجريدة نفسها كوجود في الساحة الإعلامية، كمنبر حقيقي من ضمن المنابر الأخرى، لكنه كان أكثرها حضورا، كقيمة وكحركية وعلاقة مع قارئ وجد نفسه فجأة خارجها بسبب اللغة أيضا، وقارئ آخر كان في طور التكوين. كلمة منبر ليست اعتباطية ولكنها حقيقة. الجمهورية كانت أكبر من كونها جريدة يومية، تبحث عن مسالكها وهي تتعرّب، تاركة في أثرها جيلا من الفرانكونيين الجزائريين الذين لم يختاروا لغتهم ولكنهم وجدوا أنفسهم في خضمها، فمارسوها كوسيلة تواصل مع مقروئية كانت غالبيتها ما تزال مهيمنة. لم يكن في مقدورهم أن يكتبوا بالعربية إلا القلة القليلة. وكان الرهان، كيف تستعيد جريدة الغرب الجزائري الوحيدة وقتها، دورها ثقافيا على الأقل، لأنه منذ تعريبها، خسرت مقروئيتها التقليدية، وهو أمر طبيعي. الأمر كان يتعلق باللغة بالدرجة الأولى وليس بقيمة المادة. كان المقهى والبار الإسباني في وهران، سينترا، القريب جدا من الجريدة، لا يفصل بينهما إلا شارع ينزل باستقامة نحو واجهة البحر، مرورا بنزل المارتيناز القديم، مكانا جميلا ومدهشا، ومعلما من معالم وهران الثقافية الجزائرية والإسبانية. حتى طاولاته لها الخصوصية التي لا نجدها في مقهى آخر. براميل خشبية كان صناع الخمور الإسبان يعتقون فيها مشروبهم الرفيع، لكنه للأسف، تغير مع الزمن لدرجة أن أصبح مطعما عاديا، فاقدا لأية خصوصية، ليدخل في منظومة المطاعم التي لا روح فيها. «سينترا « كان بيتنا الجميل، وغرفة التحرير خارج الجريدة. كنا نلتقي فيه بحب كبير، ونتبادل الأفكار، والوضعيات الثقافية والإنسانية والاجتماعية لجزائر السبعينيات التي كانت في حالة غليان ثقافي كبير، وننتقد مقالاتنا المنشورة في الجمهورية، الجريدة التي كنا نحلم أن نجعل منها صوتنا في الغرب. ومنبرا ثقافيا حقيقيا. كل مقالاتنا التي كنا ننشرها، كانت تمر نقديا من هناك. جيل الكتاب المعروفين اليوم، في الغرب الجزائري، مر عبر عن ذلك المقهى. كنت كلما وجدت وقتا، جلست إلى طاولتي المطلة على الخارج، وطلبت مشروبي، ثم انكببت على العمل. لا أسمع إلا الهمهمات لشاريبي البيرة الذين يغقون شيئا فشيئا في تواريخهم وحيواتهم الماضية. هذا يحكي عن حبيبته، يصلني اسمها غير تام، وذاك يتكلم عن مشاكله في العمل. وتلك في الزاوية تتأمل البحر الذي لا يظهر كاملا ولكنها ترمي بعينيها بعيدا، تخرج سيجارتها وقلمها ثم تكتب شيئا لا أحد غيرها يعرف سره. أعتقد جازما اليوم أن سينترا ربت نخبة مزدوجة اللغة، كان هاجسها الثقافة والحرية، شكلت خير وسيط لغوي بين الفرانكوفونيين والمعربين. قامت هذه النخبة التي كانت على تماس كتابي مع الجمهورية، بتطوير ملحقين ثقافيين كانت الجمهورية تصدرهما في وقت صعب: الأول النادي الأدبي الذي أشرف عليه الصديقان: الإعلامي الدؤوب المرحوم بلقاسم بن عبد الله، والروائي الحبيب السايح اللذان جعلا منه منبرا وطنيا مر عبره الكثير من الكتاب الجزائريين والعرب. والملحق الفكري الذي كان يشرف عليه عمار بلحسن وحمزة الزاوي، وكلاهما من قسم علم الاجتماع بجامعة وهران، كان بدوره منبرا مفتوحا أمام الدراسات الفكرية، بل كثيرا ما خلق الحدث. فقد كان وراء زوبعة السرقة الأدبية بين بوجدرة والشاعر المغربي محمد بنيس، التي استمرت طويلا وتدخلت فيها أطراف كثيرة. اشترك فيها يومها المرحوم بختي بن عودة مكتشف السرقة؟ وعمار والمرحوم الطاهر وطار اللذان كانا على خلاف وقتها مع رشيد بوجدرة لأسباب أثيرت وقتها. دافع بوجدرة عن نفسه وإن بدا دفاعه هشا، فأصبحت وهران فجأة قبلة للسجال الثقافي حول قضية كانت شديدة الحساسة لم تهدأ إلا بعد قرابة السنة. وانشق المثقفون إلى قسمين، واحد مع بوجدرة وكان أدونيس واحدا من المنخرطين في المعركة بعد أن أخبره بوجدرة بأن السبب الباطني للمشكلة هي الفرانكفونية التي خسرته منذ أن توجه إلى اللغة العربية، وفريق معادي وجد الفرصة مناسبة لتصفية حساباته. لهذا لم تكن جريدة الجمهورية مجرد صحيفة يومية، لكنها كانت منبرا ثقافيا. عندما دخلت في ذلك الصباح البارد إلى مقهى « سينترا «كان الأصدقاء كلهم هناك، وكان الحديث عن مقالات اليوم، ومنها مقالتي عن عبد اللطيف اللعبي ومعاناته في السجن بسبب موقفه كمثقف ومبدع. ومجلته أنفاسه التي كانت صوتا ديمقراطيا تم قمعه. وتبادلنا على رائحة الجعة الوهرانية، بعض الحديث عنه، وكتابه العين والليل (L'œil et la nuit ( المنشور في 1969، الذي كتبه بين حدثين قاسيين، قمع مظاهرات الدار البيضاء في مارس 1965، وهزيمة العرب القاسية في 1967، فكان نشيدا سرديا قويا ومحركا. لم تكن الكتابات وقتها مرتبطة فقط بالفعل الكتابي فقط ولكنها كانت أيضا فعلا تضامنيا مع الذين كنا نكتب عنهم. وللتخفيف من جو الجدية الثقيل.
قصّ علينا الصديق المرحوم عمّار بلحسن، أو كما تنطق بالمسيردية أعْمَرْ، القاص المميز الذي خطفه الموت في وقت مبكر، كيف تم السطو على حصته الثقافية التليفزيونية كاتب وكتاب التي كان ينشطها ويطورها، ومر وقتها عبرها أغلبية المثقفين الجزائريين والعرب الذين كان عمار يستغل فرصة مرورهم على الجزائر ليستضيفهم. لأنه وضع إدارة المحطة الجهوية أمام مسؤوليتها، إما أن ترفع من حقوقه وحقوق ضيفه المادية التي كانت في حدود 500 دج، أو يترك حصته، فعلقها. في المسائل المادية قليلا ما كانت مؤسسات الدولة تستجيب للمطالب. قال عمار وهو يضحك ويحتج أيضا: تعرفون ماذا حدث؟ واحد يبني وواحد يهدم. بمجرد أن سمع أحد المثقفين الشطّار، من الذين كانوا يحضرون معنا جلسات سينترا، من حين لآخر، بأني علقت الحصة حتى يستجاب لمطلبي الطبيعي، ركض هو نحو إدارة محطة وهران الجهوية، بلا حياء ويظن أنني لن أعلم، واقترح على الإدارة خدماته بسخاء، وبلا قيود مادية مسبقة، وبالثمن الذي يرتضونه، فأجهض المشروع في تغيير طرق التعامل الإدارية مع المثقف والمثقفين، في محطة وهران التلفزيونية والإذاعية. أترك التفاصيل لزمن آخر (مسجلة عندي بصوت عمار بلحسن من خلال حوار كنت قد أجريته معه). واتفقنا في تلك الجلسة على ألا نتوقف عند حدود الدفاع عن الشاعر الكبير عبد اللطيف اللعبي الذي كان شخصية أدبية ونضالية مبهرة، لكن أن نفتح مساحة تضامنية أكثر اتساعا مع الكتاب المغاربة المعتقلين والليبيين الذين كان القذافي قد زج بالكثير منهم في السجون، في ظل صمت عربي وثقافي لا مبرر له سوى الخوف. والمقالات التي كتبت بعدها كانت كلها تسير وفق هذا المنحى. تدحرجت بعدها نحو مقر جريدة الجمهورية برفقة صديقي الذي كان يومها يشتغل في وكالة الأنباء، المرحوم بلقاسم بن عبد الله، في ذهني شيء واحد هو أن أكتب عن سجينين مغربيين آخرين، هما عبد اللطيف، زروالي والمناضلة المرحومة سعيدة منبهي التي توفيت لاحقا في الزنزانة، في 11 جانفي 1977 بعد إضرابها اللامحدود عن الطعام. وتشاء صدف الحياة أن ألتقي في السنة الماضية بأختها، في طنجة، ولم أستطع أن أحبس ليس دمعا فقط، ولكن ذاكرة كان فيها مفهوم المغاربية شأنا مغاربيا ووطنيا. عندما دخلت إلى الجريدة، وقبل أن أتكلم، وجدت ترحيبا كبيرا من التحرير بسبب مقالة عبد اللطيف اللعبي، ولهذا لم أجد صعوبة أبدا في فرض اسمي المعتقلين المغربيين، عبد اللطيف وسعيدة، ثم انزويت أبحث وأكتب عنهما معتمدا على المعلومات الفقيرة التي تحصلت عليها، قبل أن أنزل للأرشيف أبحث في المجلات والجرائد الفرنسية تحديدا، بما فيها الوثائق التي كانت تنشرها هيئة حقوق الإنسان التي كانت تتابع عن قرب وضعية المعتقلين عبر العالم. لهذا عندما أقول إن الجمهورية كانت منبرا، لا أعتقد أن الكلمة تطلق هباء. فقد كانت مثل خلية نحل تعج بالأفكار المتضاربة، وعلى الرغم من اختلافاتها، كان الإنسان رهانها الكبير.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)