لم يكن وباء الطاعون وحده يشكل خطرا، على حياة المجتمعات والأسرة بل يضاف إليه، ظواهر طبيعية أخرى لا تقل عنه خطورة وفتكا. كالقحط والزلازل والأعاصير والجراد والمجاعات(85)، التي تؤثر على معاش الناس وقوتهم، فقد تعرضت بلاد المغرب، إلى كوارث طبيعية وإلى ظروف مناخية قاسية دورية بحيث ساد المنطقة القحط، واستفحل فيها منذ القرن السابع هجري، الثالث عشر ميلادي، ففي سنة 617هـ/1220م. اجتاحت بلاد المغرب والأندلس مجاعة كبيرة، اشتدت وطأتها على السكان، وتسبب في موت الكثيرين منهم، في المدن والقرى(86)، وقد انتشر الغلاء والجراد، والقحط في سنة 617هـ/1220م أيضا. حتى وصفها صاحب القرطاس ''بالمجاعة العظمى''(87).
وداهم الجراد بلاد المغرب سنة 624هـ/1228م، فأتى على المحاصيل بجميع أنواعها فارتفع ثمن القمح ومختلف المواد الغذائية، وتكرر قدومه سنة 630هـ/1232م. فعمت المجاعة بسببه، في بلاد المغرب من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب(88). فانعدمت فيه الأقوات، ونقضت الغلات، وقلت مردودية الأرض، وذهب معظم الإنتاج فتضرر الإنسان والحيوان معا، وقد وصف ابن الخطيب هذه الكارثة بقوله: ''عظم الجفاف، وعصفت الريح الرجف، تنقل الهضب قبل ارتداء الطرف، وتبدل أعيان الأرض، وتعاجل حلاق لمم النبت، فصيرت وجه الأرض كمطارح خبث الحديد، أمام مضارب البيد، يبسا وقحلا، وعقرا للأرجل، وعصيانا على السنابك، وأحرقت ما كان قد نجم من باكر البذر ودامت فاستأصلت الأوراق من الشجر الدهين، الذي لا يسقط ونشفت البشرات وأثنيت الجلود''(89).
يتضح مما سبق مدى الضرر الذي أحاط بالسكان والحيوان والاقتصاد، وعمق تأثيره على الحياة بالمدن والقرى، إلا أن القحط، بالرغم من كثرة حدوثه، في بلاد المغرب، كان أقل إبادة من الوباء، ويصيب ضرره سكان الأرياف والبوادي، أكثر من سكان المدن، ولاسيما العواصم التي كان أهلها يدخرون المؤن، من قمح وشعير وزيت وسمن وتبن وعسل وشحم وقديد، وكان يعرف عند التلمسانيين بالمسلي(90)، وغيرها من المواد الغذائية التي يطول خزنها. وقد كان أهل تلمسان وسلاطينها يدخرون هذه المواد في أهراء المدينة ومطاميرها، في أحد أحياء تلمسان يدعى حي المطمر(91)، لمثل هذه الظروف ولمقاومة الحصار الذي يمكن أن تتعرض له مدينتهم، ثم أن سلاطين بني زيان كانوا كثيرا ما يفتحون هذه المدخرات لرعايا المدينة(92)، ويرجع ابن خلدون أسباب ظهور المجاعات الدورية إلى ظواهر اجتماعية وسياسية وطبيعية، وإلى الحروب والفتن الداخلية بقوله: ''ثم أن المجاعات والموتان تكثر، في آخر الدول، والسبب فيه فلقبض الناس أيديهم عن الفلح، في الأكثر بسبب ما يقع في آخر الدولة من العدوان، في الأموال والجبايات أو الفتن الواقعة في أنقاض الرعايا وكثرة الخوارج لهرم الدولة''(93).
فقد داهمت مدينة تلمسان مجاعة شديدة خلال النصف الأول من القرن الثامن هجري الرايع عشر ميلادي، حتى لم يطق السكان تحمل هذه المجاعة، وتعرضت مدينة تلمسان في عهد السلطان أبي سعيد عثمان الأول، لغلاء كبير حتى تعطلت المرافق العامة الخيرية والمساجد فبعث السلطان لأهل البلد يطلب منهم بيعه بعض المنتوجات الزراعية، فلم يجدها عندهم(94).
كما حدثت في بلاد المغرب ومدينة تلمسان على وجه الخصوص، مجاعة عظيمة سنة 776هـ/1373م. فعم الغلاء في البلاد وهي الحالة، التي ضجر منها أحد السراة الميسورين وهو أبو العباس أحمد الشهير بابن قنفد القسنطيني، فاشتكى من ارتفاع سعر المواد الغذائية في مدينة تلمسان، إذ لم يستطع تحمل النفقة الباهضة، التي كانت تكلفه يوميا نحو أربعة دنانير ذهبا دون المزية العظمى واليد الكبرى، التي تبيع له الطعام، وقد اضطر ابن قنفد أن يقيم في تلمسان مدة شهر لانعدام الأمن في المسالك والطرق بسبب هذه المجاعة(95).
وعاصر يحي بن خلدون هذه المجاعة، بمدينة تلمسان فوصفها بقوله: ''إنها نتجت عن إعصار عظيم، أهلك زرع صائفة تلمسان وحيوانها، فأكل الناس بعضهم بعضا، وافتقروا إلى ما لدى السلطان''(96)، الذي تصدق بنصف جبايته على ضعفاء تلمسان.
فقد كان يجمعهم كل يوم في الرحاب الفسيحة من المدينة، وتقدم لهم المؤونة بواسطة أعوانه ومساعديه(97)، وأصدر السلطان أبو حمو موسى الثاني، بهذه المناسبة قرارا بالتكفل بالضعفاء والمساكين والفقراء، وبضمهم إلى بيمارستانات المدينة، وتقديم الطعام لهم، في الصباح والمساء، طوال فصلي الشتاء والربيع، وفتح للرعية أهراء الزرع ومخازنه وأباح للناس بيعه، وخفض لهم سعره بحسب ما اقتضته ظروف المجاعة وأحكامها، وكان أبو حمو موسى الثاني، كغيره من سلاطين بني زيان، حريصا على تخزين المال، والمؤن تحسبا لمثل هذه الظروف ولغيرها، وكان يحث الناس على الاقتصاد وتخزين المؤن كل سنة(98).
وكان السكان بمدينة تلمسان، يتميزون بالتضامن الاجتماعي وإغاثة المسكين والفقير، ولاسيما عندما تحل سنوات المحل، والظواهر الطبيعية القاسية، وكان في مقدمة المحسنين الفقهاء والمتصوفة والعائلات الميسورة، وأهل الخير ومن بين هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: أبو العباس أحمد بن مرزوق، الذي كانت له مطامير من القمح والفحم والخليع والزيت، فقد كان يفتحها جميعا أمام الفقراء والمحتاجين، ويتصدق بها طوال يومه فلا يعود إلى منزله، إلا بعد أن يفرغ المطامير، وكان كل يوم يتصدق بالخبز على المساكين والثياب طوال السنة(99).
وكذلك كان الفقيه الولي الصالح، أبو زيد عبد الرحمان بن يعقوب المدرس بمكتبه بسويقة إسماعيل، يفضل أن يقدم طعامه وطعام عياله للمساكين والمحتاجين، الذين تأثروا بالمجاعة، وهذا يدل على أن المتصوفة أقرب إلى قلوب الناس، خاصة الفئة الضعيفة لأنهم يؤازرونهم وقت المحن(100).
ومنهم أيضا الشيخ الصالح الأمين أبي عبد الرحمان النجار، الذي كان يكثر من الصدقات وأعمال البر على الطلبة والمحتاجين(101)، وكان محمد بن مرزوق الجد، يتصدق بكميات كبيرة من القمح والنقود على الضعفاء كل يوم جمعة(102).
وتعود أهل تلمسان على العواصف القوية، التي كانت تحدث في آخر كل خريف خلال فصل الشتاء، مصحوبة بالبرد والصواعق والثلوج، وهذا المناخ هو الذي كانت تتميز به مدينة تلمسان وضواحيها.
فقد كانت أشد بلاد المغرب الأوسط بردا وتجلدا(103)، وهو مناخ يؤثر على الزرع ويفسد غلائه، ويعيق نمو الخضر، والفواكه ويتلفها(104)، وهذا هو السبب الذي جعل أهل تلمسان حريصين، على تخزين المؤن والمواد الغذائية في الأهراء والمطامير الكثيرة، التي تحتوي عليها منازل تلمسان ودورها.
الموضوع رائع استفدت منه كثيرا فهو حقل من المعلومات
هواري بومدين - قالمة - الجزائر
02/05/2011 - 14269
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 27/10/2010
مضاف من طرف : tlemcenislam
المصدر : www.almasalik.com