لا يفرط الجزائريون في أداء فريضة الصيام ''المقدسة'' عندهم حتى عندما تصل درجات الحرارة مستويات قياسية، كما حدث خلال الصيف الحالي، وحتى إذا كان البعض منهم يقومون بأداء وظائف تتطلب وجودهم في الميدان وتعرضهم للفحات الشمس الحارقة. وتجتهد هذه الفئة من الناس في إيجاد بعض الحلول من أجل الموازنة بين الصيام وبين تعرضها لأخطار الحرارة على البدن، لكن الشجاعة في مثل هذه الحالات تبقى المحك الحقيقي الذي يصنع منهم أشخاصا ذوي المتانة، فضلا عن النهوض باكرا من أجل العمل قبل أن تبسط الشمس أشعتها الحارقة على الجميع.
مثل هذه الحالة قد تنطبق على مجموعة عمال البناء الموجودين بمشروع ترميم فندق بعين البنيان غرب العاصمة، ووفق صاحب مشروع الترميم، زراوي محمد، فقد حصل مالك الفندق على درجة ثالثة لهذه المؤسسة السياحية، وأعمال الترميم بها جارية على قدم وساق من أجل استيفاء متطلبات هذه الدرجة التي منحتها السلطات السياحية في بلادنا لهذا الفندق.
ويصل إجمالي عدد العمال الموجودين بهذا المشروع إلى حوالي 20 عاملا، وبالنسبة لشهر رمضان الكريم فقد مكنهم صاحب المشروع من أوقات عمل مكيفة وفق الشهر الكريم، حيث يقوم ستة عمال مختصين في التلحيم بالعمل يوميا من السادسة صباحا إلى الثانية عشر زوالا، أما العمال المختصون في أشغال البناء وعددهم حوالي عشرة عمال، فهم يعملون من الثامنة صباحا إلى غاية الساعة الثانية زوالا.
والخصوصية المعتمدة لفائدة عمال التلحيم، تعود أساسا، حسب ذات المتحدث، إلى كونهم يواجهون وضعيات مهنية قد تكون أحيانا في المحيط الخارجي للمبنى لمعالجة وضعية الأنابيب، فضلا عن كون عمال التلحيم يعملون على آلات تبعث درجات حرارة مرتفعة، الأمر الذي يحتّم عليهم العمل ابتداء من ساعة مبكرة جدا من أجل تلافي حرارة الشمس في رمضان. وعموما، فإن صاحب المشروع يؤكد أنه لا وجود للعمل في ورشات البناء، سواء كانت عمومية أو خاصة، ما بعد الساعة الثانية زوالا، ويستثني من ذلك، حسب ذات المصدر، المشاريع التي تكون ذات طابع استعجالي أو تلك التي يتم تجسيدها في الولايات الجنوبية الصحراوية التي يمكن العمل فيها خلال ساعات الليل، زيادة على العمل خلال ساعات الصباح وفق ذات المتحدث.
ويبدو بعض العمال الشباب الذين استفسرناهم على مستوى هذه الورشة، راضين على هذه الوضعية المتعلقة بزمانية العمل المطبقة على مستوى المكان، حتى وإن كان هاجس الحرارة المقرونة بالصيام خلال ساعات النهار يبدو حاضرا في نبراتهم، ويقول أحد هؤلاء العمال، واسمه عمامرة أمين (19 سنة)، أنه غالبا، وخلال الشهر الكريم، يعمل بداخل المبنى، حيث يتفادى العمل في محيط المبنى ''عندما تكون الشمس متوهجة في كبد السماء''، ولا يخفي هذا الشاب الذي يمارس مهنة عامل بناء بالورشة، إحساسه فعلا بالعطش خلال العمل في رمضان لاسيما في حدود الساعة الواحدة زوالا، لكن صاحب المشروع يقول مقاطعا كمن يحاول رفع معنويات عماله ''من حسن الحظ أن المبنى الجاري ترميمه يقع أمام شاطىء البحر، وهو أمر يعمل على تلطيف الجو على مستوى المكان''.
ويقول عامل بناء موسمي آخر، واسمه ''نصيب عاشوري'' (18 سنة) أنه أحس بالعطش في رمضان خلال الأيام الأولى منه خصوصا قبل أن يضيف ''من حسن الحظ أن درجات الحرارة لم تكن مرتفعة كثيرا خلال الأيام الأولى من الشهر الكريم''.
ويؤكد ذات المتحدث بقوله أيضا ''خلال اليوم الأول من شهر رمضان، أحسست بعطش شديد في منتصف النهار، إلى درجة أني أنهيت العمل وتوجهت مباشرة إلى النوم (بعد أخذ حمام) ولم استيقظ سوى ساعة قبل حلول موعد الإفطار''، وعموما فإن هذا العامل الموسمي في مجال البناء يقول أنه لا يخشى كثيرا الحرارة خلال العمل في رمضان لأنه يعمل داخل المبنى وليس في محيطه، وإذا حدث وأن اضطر للعمل في محيط المبنى وضمن درجات حرارة عالية، فإن ذات المتحدث يؤكد أنه حينها سيبدأ العمل في ساعة مبكرة جدا من النهار.
تحدي قطف محاصيل الطماطم.. العمل باكرا تجنبا لأشعة الشمس الحارقة
خلال شهر رمضان، واقتران الصيام بدرجات حرارة محسوسة في فصل الصيف، يشكل العمل في المزارع تحديا كبيرا على الفلاحين الذين يجدون أنفسهم مضطرين إلى بدء العمل باكرا جدا أو حتى خلال ساعات الليل من أجل مواجهة هكذا وضعيات، وهذا على الأقل ما يؤكده أحد المزارعين على مستوى بلدية سطاوالي، وبالضبط على مستوى المجموعة الفلاحية رقم 37 الممتدة على مساحة واسعة غير بعيد عن فندق ''الشيراطون''.
ويقول هذا المزارع إنه منهمك حاليا في قطف بعض محاصيل الليمون، لاسيما وأن مردودها التجاري خلال شهر رمضان الكريم جيد، حيث وصل سعر الكيلوغرام الواحد حدود 160 دج في أسواق الجملة وحدود 280 دج في أسواق التجزئة.
ويضيف هذا المزارع، الذي فضل عدم الكشف عن هويته، أن العمل مركز أكثر في الوقت الحالي على قطف محاصيل الطماطم من النوع الشهير المعروف ب ''سان ميشال''، وهو المنتوج الذي يتم زراعته عادة في المساحات الفلاحية المكشوفة خلال بداية جويلية، وقطفه نهاية نفس الشهر وبداية شهر أوت من كل عام.
وبخصوص قطف محاصيل طماطم ''سان ميشال'' هذه الأيام في رمضان، فإن هذا المزارع يؤكد أنه ينهض باكرا من أجل ذلك، وفي حدود الساعة الخامسة صباحا حيث يواصل العمل، كما يقول، إلى حدود الساعة الثانية عشر زوالا فقط، إذ لا يوجد من يعمل مساء في المزارع تجنبا للعطش خلال أيام الشهر الفضيل الذي أتى هذا العام في عز فصل الصيف.
ويستطرد هذا المتحدث بقوله ''نحس بالعطش خلال ساعات العمل، لكننا متعودون عليه''، قبل أن يضيف أن العمل عادة في المزارع خلال رمضان يبدأ مباشرة بعد الفجر، حيث يمكن الاستعانة بضوء القمر من أجل الرؤية، خاصة وأن السماء تكون عادة صافية في فصل الصيف.
الولايات الصحراوية: العمل تحت 46درجة مئوية
ليست هذه نكتة أو حكاية من نسج الخيال، وإنما هي حقيقة يعيشها أحد الشباب العاملين بولاية الوادي، ضمن مؤسسة عمومية تعمل في مجال تركيب أنابيب الغاز، حيث تصل درجات الحرارة هذه الأيام المتزامنة مع الشهر الفضيل إلى مستويات مرتفعة.
وخلال إجرائنا اتصال مع شاب يدعى ''رضوان. ل''، نهاية الأسبوع الأول من رمضان، وصلت درجة الحرارة إلى 46 درجة مئوية وفق ما أكدته على الأقل الإذاعة الجهوية بولاية الوادي، وبلوغ الحرارة هذا المستوى لم يمنع هذا الشاب من مزاولة عمله كسائق لإحدى آلات الأشغال العمومية على مستوى الولاية ضمن مشروع لتركيب أنابيب الغاز.
لقد سألنا هذا الشاب ما هي الكيفيات التي يستعملها لتجنب العطش الشديد ضمن درجات حرارة عالية مقرونة بالصيام، فأكد لنا أن الحل يكمن، وكما هو جارٍ فعلا في توقيت العمل بهذه المؤسسة، بدء العمل باكرا، حيث يتم ذلك حاليا في حدود الرابعة والنصف صباحا وإلى غاية الحادية عشر صباحا من نفس اليوم.
''إنه أمر صعب فعلا أن تعمل في العراء وضمن درجات حرارة في هذا المستوى'' بولاية صحراوية خلال شهر رمضان المعظم، لكن بدء العمل باكرا جدا، والانتهاء منه في حدود ساعة صباحية مقبولة، يجعل الأمر عمليا أكثر وفق هذا الشاب الذي يعمل بولاية الوادي، وفي نفس المجال منذ حوالي عامين. ضمن وضع كهذا، وفي ولاية تصل فيها درجة الحرارة إلى ما فوق الأربعين خلال فصل الصيف، على الدوام تقريبا.. ليس هناك بعد انتهاء العمل سوى أخذ حمام جيد، ثم الاستلقاء والنوم إلى غاية وقت حلول الإفطار، يقول الشاب ''رضوان'' الذي يعترف أيضا بكون آلة الأشغال العمومية التي يقودها خلال العمل مكيفة وأن ذلك يسهّل عليه المهمة أثناء أدائه لوظيفته.
غالبية أراضي الجمهورية الجزائرية هي أراض صحراوية بالأساس، وهي أماكن مثلها مثل مناطق الشمال الموغلة في الاخضرار، بحاجة إلى تجسيد مختلف المشاريع، في الصيف كما في الشتاء، في شهر رمضان كما في سائر الشهور الأخرى، والعاملون في هكذا مشاريع بالولايات الصحراوية ذات المناخ القياسي، يؤدون وظائفهم وفق الآلية الزمنية التي تضم حوالي خمسة أسابيع للعمل وأسبوعين اثنين للراحة، وفي حالة الورشة التي يعمل بها الشاب ''رضوان''، فإنها تضم مجموعات كاملة العدّة من سائقي آلات الأشغال العمومية والشاحنات والميكانيكيين والكهربائيين فضلا عن عمال التلحيم الذين يقومون عادة بربط أنابيب الغاز بعضها ببعض من خلال استعمال آلات وأدوات تنفث اللهب دون انقطاع وعلى نحو يجعل الأمر صعبا فعلا عند العمل في درجات حرارة عالية وخلال شهر رمضان.
ولذلك فإن الكثير من العمال في هكذا ورشات وهكذا ولايات صحراوية يلجأون إلى برمجة عطلهم وأخذها خلال شهر رمضان، ويحدث ذلك كثيرا خلال السنوات الأخيرة التي أصبح فيها شهر رمضان يحل على الجزائريين خلال فصل الصيف.
عمال المخابز ومحلات بيع الحلويات: مواجهة أفران تعمل بمقياس يفوق ال 100درجة مئوية!
خلال شهر رمضان المعظم، يصبح تحضير الخبز ومختلف أنواع الحلويات، لاسيما الشرقية منها، تحديا كبيرا وبوجهين اثنين..
يصبح ذلك تحديا لأن مثل هذه المكونات الأساسية في المنظومة الغذائية للجزائريين خلال رمضان الكريم، تصبح مطلوبة بقوة وعلى الدوام أثناء شهر الصيام، أما الوجه الثاني لهذا التحدي فيكمن في كون تحضير الخبز والحلويات يتم أمام أفران تعمل بدرجات حرارة عالية، ويقول صاحب محل لبيع الحلويات بالعاصمة حيث درجة الحرارة أمام الفرن تصل إلى مستوى مرتفع، أن عماله الأربعة مستمرون يوميا خلال شهر رمضان، من العاشرة صباحا وإلى غاية الرابعة مساء، في أداء عملهم أمام أربعة أفران كاملة، يحتاج القائمون عليها إلى ضبطها على مقياس مائة درجة من أجل التمكن من طهي ''قلب اللوز'' وعدد آخر من الحلويات.
ويضيف ذات المتحدث أن عماله، ورغم صعوبة المهمة في شهر الصيام، يقومون بذلك على أكمل وجه من خلال التحلي، كما قال، بشجاعة كبيرة.
ويوافق أحد عمال هذا المحل، واسمه ''منير. ل'' رب عمله في هذا الرأي من حيث أن القيام بعمل كهذا يتطلب التحلي بشجاعة فائقة، لاسيما وأن القاعة التي تضم الأفران الأربعة تصبح خلال ساعات العمل مثل ''الحمام'' من حيث درجات الحرارة السائدة فيها.
ويقول صاحب محل آخر، مختص في بيع الخبز والحلويات بالعاصمة أيضا، إن الفرن يحتاج إلى تشغيله على مقياس 250 درجة مئوية من أجل التمكن من طهي شتى أنواع الحلويات، وهو ما يفرض على العمال، كما يقول، التحلي بشجاعة كبيرة، رغم أن ''حجرة الأفران التي استعملها واسعة نسبيا وتسمح للعاملين فيها بالابتعاد ما يكفي عنها، بل وحتى التجول قليلا في أرجائها على سبيل الترويح عن النفس''.
ويؤكد الشاب ''سليمان. م'' وهو أحد عمال المحل، أن المكيف الهوائي نفسه لا يستطيع حل هذه الوضعية، مشيرا إلى أن الكثير من الخبازين الذين يعرفهم قد غادروا وظائفهم خلال شهر رمضان ضمن عطل طويلة نسبيا حتى ينقضي شهر الصيام على الأقل..
ويستطرد عامل آخر في نفس المحل واسمه ''عبد القادر. س'' بقوله إن الجرأة والثبات على المهمة هما أساس العمل في مثل هذه الحالات، مشيرا بقوله إلى أن العديد من الخبازين يخففون على أنفسهم خلال الشهر الفضيل بالاشتغال ثماني ساعات يوميا فقط بدلا من مد ساعات العمل وكسب المزيد من المال.
ويقاطع صاحب المحل حديث عامله، متوجها إلينا بقوله أنه ''لولا خوف الخبازين من عقوبات السلطات العمومية، لربما اختاروا غلق محلاتهم خلال شهر رمضان الذي حل علينا هذه السنة 2012 في عز الصيف، مع كل ما يطرحه ذلك من تحديات على صعيد تحضير الخبز والحلويات أمام درجات حرارة عالية''.
ويلفت محدثنا الانتباه إلى أنه وفي مثل هذه الحالات، من الضروري استعمال ''ليونة وديبلوماسية فائقة مع العمال الخبازين وصانعي الحلويات خلال شهر رمضان لأن ذلك وحده فقط ما سيرفع معنوياتهم لمواصلة العمل بشجاعة وعن طيب خاطر.
لقد رأينا نماذج عديدة لجزائريين تحدوا الحرارة، وهم صائمون، من أجل إنجاز أعمالهم على أكمل وجه، خلال رمضان المعظم، ومن المؤكد أن هذه تبقى مجرد نماذج لا يمكن الاكتفاء بها وحدها عند بسط المشهد العام لأصحاب المهن الصعبة التي يمارسها الكثير خلال شهر الصيام، وهي مهن كثيرة فعلا وتحتاج إلى أكثر من موضوع.
ومن المؤكد أيضا أن نجاح أصحاب هذه النماذج في أداء مهامهم باقتدار وهم صائمون يعود إلى إيمانهم الراسخ وشعورهم بضرورة خدمة الآخرين، لاسيما عندما تكون المهنة مقرونة بالتحدي.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 29/07/2012
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : ع ل
المصدر : www.djazairnews.info