الجزائر

الترجمة ورهان العولمة الجزء الثالث



التهوين من علوم المجتمع
يسود جنْب هذه الشواهد لدى العديد من الخبراء والكتّاب في الولايات المتحدة حاليا أمثال «روبرت كابلان»، «بنيامين باربرن»، «صمويل هنتنجتون»، نغمة تقوم على التهوين من علوم المجتمع، تلك التي تمثل الحاضنة المعرفية لرعاية المصطلحات والمفاهيم الخاصة بالتاريخ والمجتمع والثقافة، وحجة مرددي هذه النغمة، أن هذه العلوم لم تعد تمتلك إمكانية مقاربة ملابسات الحاضر، حين لم تستطع أن تتنبأ بسقوط المعسكر الاشتراكي مطلع تسعينيات القرن ال20 أو انتعاش "الصحوة الإسلامية"، مع افتقارها لوجود تطورات جذرية مماثلة لما يسود في علوم الطبيعة ذات التطور اللافت في منجزاتها ودقتها ومقدرتها التنبؤية.
الآليات
يرفد هذا السياق، آليات ابتدعتها القوى ذات المصلحة في تكريس عملية العولمة، يهيئ النفاذ إلى ما وراء ظاهرها، الكشف عن رطانة ممارساتها الترجمية، وتشير خبرة التاريخ إلى أن انحراف الأقاويل الخطابية في الفلسفة الإغريقية القديمة أدى غالى ظهور "ريطوريقا أرسطو"، كبلاغة تجمع بين الاهتمام بالأسلوب والحصانة الأخلاقية وأوجدت في الحضارة العربية عناية ببلاغة الإقناع في إطار البيان والمناظر، أما "ريطوريقا العولمة"، فأعلنت قسْريتها منذ لحظتها الأولى بفضل التكنولوجيا التي جعلت من نذرها أمورا ممكنة، وهو ما يتمثل في الانتشار المتزايد لإتاحة الاتصالات الحديثة ونظم وتكنولوجيا معالجة البيانات، والتحول العالمي الذي شهدته الوسائل الحديثة المتعارف عليها في مجالات مثل الحملات السياسية القومية والتسويق والدعاية والحرب المتصاعدة للمعلومات واستخباراتها، ساعد عليها تزايد مسامية الاقتصاديات والمجتمعات وتحرير الأسواق والاستثمارات وما يتعلق بها من مواصفات قياسية للمنتجات ووسائل الترفيه والثقافة والتعليم، والأهم أن ما حدث كان أمراً منطقيا ونتيجة متوقعة في سياق سلسلة الأحداث التي أدت إلى ظهور القطب الأوحد في فترة ما بعد الحرب الباردة، وطبيعي أن تنسحب هذه الأوضاع على ريطوريقا العولمة، وخاصة ما يتصل بمعجم لغتها واستتباعاً ترجمتها عبر آليات بعينها يمكن معاينتها مع إشارات لأمثلة لها، كالتالي:
التحويل في دلالة المصطلح المترجم
في علم الترجمة يتم التعبير عن هذا التحويل بمصطلح "الانتحاء"، ويعني ترجمة مصطلحات ومفاهيم للدلالة على معان غير منطبقة على الحقائق، وبمعزل عن دلالاتها في لغتها الأصلية كي لا تلبث مع التداول أن تزداد قوتها التعميمية على تبديل فكر في اتجاه مقصود، أكثر ملاءمة لمصلحة واضعيه، ويمارس هذا الانتماء ضمن إطار ترجمي ملتبس، تشح فيه المعلومات المتصلة بكافة جوانب المصطلح المراد ترجمته، أو يتم فيه عن قصد تسريب دلالة له بعينها بواسطة عدوى التوجهات المقصودة التي تسعى إلى رفع حصتها من التأثير إلى حدّها الأقصى واستثمار جملة الفوارق المميزة بين لغتي المصدر والهدف، ومن الأمثلة الدالة على ذلك أنه وفي غمار انشغال النظام العالمي الجديد بالحرب ضد الإرهاب، تترجم لفظة "الشهيد" العربية تارة إلى "Martyr" وأخرى "Suicide Bomber" وتعني "من قتل نفسه"، كذلك تترجم لفظة "الجهاد" إلى "Holy War"، وفي الأدبيات السياسية الأمريكية إلى "سفك الدماء حبّا في القتل والإرهاب"، وهذه الأمثلة أقرب ما تكون إلى المواقف الأيديولوجية، قدر بعدها عن طريق الوضوح المفاهيمي، ذلك أن كل تحويل هو بمثابة إحالة من دلالة إلى أخرى وكل انتماء هو صرف لفظ أو انتهاك قصد أو إعادة تشكيل معنى، من أجل توليد دلالة أخرى، تنبثق معها إمكانيات جديدة للتفكير والعمل، بقدر ما تنْسج علاقات مغايرة مع الحقيقة، والأمر هنا يتعلق بقناعات تضفي معاني موجهة على تلك المصطلحات المترجمة، بوضعها في سياق غير محايد، وصوغها بشكل مشوّه وتحويل حقل دلالاتها كي تضحى تحت سلطة تداولها ورهن تخليق إيديولوجيا لمتلقيها إلى الدرجة التي تصبح فيها أشبه بلغة أخرى يجري التعبير عنها، ليست هي اللغة التي تثري البديهة وتضيء الحقيقة، ولكنها "لغة الغالب التي تفكر بدلا منك" على ما يذكر «فيكتور كليمبرر».
احتكار تعريف المصطلحات المترجمة
هي الآلية الثانية في ريطوريقا العولمة ذات الصلة بالعمل الترجمي، وتعرف في علم اللغة بمصطلح "المحاكاة" بعبارة أخرى وتعني الانطلاق من قول ثم شرحه وتأويله على صياغة جديدة بنية ومعجما توهم بوجود تكافؤ دلالي، وتختزن هذه الآلية في اشتغالها، آليات أخرى فرعية يجري وضعها أو استخدامها كالزحزحة والتفكيك والتوسيع والتضييق، فضلا عن الاختلاف والتوليد والاكتفاء بالنفحة الإطلاقية المعلنة، عبر مركبات وأنساق معرفية أخرى، بما لا يدعم الاستدعاء الإيجابي للمصطلحات، والمثال الأبرز هنا هو مصطلح "القرية الكونية" الذي صاغه عالم الاجتماع والاتصال الكندي «مارشال ماكلوهاند» مطلع ستينيات القرن ال20، وركز فيه على دور التطورات المتسارعة لتكنولوجيا وسائل الاتصال في تقليص سرعة حركتها للمسافات، وتحويل العالم إلى قرية كونية واحدة، والمصطلح بهذا المعنى وثيق الصلة بالعولمة وربما مثّل صورتها الجنينية ويتراود مع نزعة ما بعد الحداثة، حين جاور بين العالم والقرية وزامن بين أنماطهما وقيمهما وأمزجتهما، والمقصود بهذا المصطلح هو أن العالم لم يعد مسكنا لكيانات مجتمعية مفصولة ومعزولة عن بعضها، إذ أفضت التطورات الثورية المتصاعدة في تكنولوجيا الاتصال إلى حقيقة أن المجتمعات أضحت متواصلة على درجة مدهشة ومتعاظمة من الكثافة، وثم معنى آخر للقرية الكونية، هو أن العالم صار مترابطا على هيئة عضوية، بحيث أن ما يحدث في أي بقعة فيه يؤثر على جميع بقاعه الأخرى، مهما تباعدت المسافات أو تنافرت الثقافات أو اتسعت فجوة التطور والرفاهية والنمو، بما يقرّب الشؤون العالمية من المعنى الاجتماعي لتعبير القرية، الدال على عمق الروابط وشدة الاعتماد المتبادل ومدى الحاجة إلى التضامن بين سكان هذا الكوكب، على أن هذا التواصل لم ينتج بعد قبول المتبادل الضروري للتعايش في سلام، ولا الالتزام المشترك بأغراض موحدة، وهو أمر حيوي لتحرير قطاع كبير يعاني غوائل الجوع والفقر، ولا الألفة وحس الانتساب الحقيقي لكيان موحد هو الإنسانية باعتباره الحاضنة الأساسية للشعور النبيل بالحرية، وعلى العكس من ذلك كله لم يكن العالم مكانا أكثر خطرا وتهديدا أو عصفا بالأمن مما هو عليه في الحاضر، بما أثبته واقع القرية الكونية الراهن، والذي تمخض عن مستوطنة غريبة أو جزر منفصلة، يربط مناطقها المتباعدة توحّد تليفزيوني وبضع مدنا تتركز فيها وسائل الصناعة الحديثة والتكنولوجيا العالية، بما يشي أن المصطلح بمثابة محاولة لطمس التناقضات الاجتماعية والثقافية الجديدة، الناتجة عن ثورة التكنولوجيا، ذلك أن 80 بالمائة على الأقل من سكان العالم ما زالوا يفتقدون حرية الوصول إلى الوسائل الأساسية لتكنولوجيا الاتصالات، وحوالي 50 بالمائة دولة لديها أقل من خط تليفون واحد لكل مائة نسمة، وخطوط التليفونات في مدينة «مانهاتن» الأمريكية أكثر من كل الدول الإفريقية جنوب الصحراء، وعلى حين يوجد لدى الولايات المتحدة 25 جهاز كمبيوتر لكل مائة شخص، فإنه حتى في كوريا الجنوبية سريعة النمو، لديها 9 أجهزة فقط، فبينما ينخفض العدد في غانا إلى 11 بالمائة إضافة إلى أن استعمال الأنترنيت ما زال إلى حد كبير قاصرا على أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وكلها شواهد تجعل من الدلالة القارة لمصطلح القرية الكونية، حال توسيع تناقلها ونشرها ومداومة استخدامها عبر ترجمته أمراً خادعا.
ابتداع سرديات لتقنيع توجهات الترجمة
ويتم ذلك من خلال إنشاء قصص تشكل قرى العولمة صوتها السردي الأوحد كمرتكز إدراكي يتأسس حوله نطاق كامل من التصورات الموجهة، مع إقصاء كافة القصص الأخرى، والأمر هنا لا يخرج عن دائرة الإفادة من فعالية الحكي الإنسانية العتيقة كتعبير يمكن توجيهه وترويجه، من خلال وسائط إعلامية شتى ومتعددة على نطاق العالم بأسره، ومن أهم هذه السرديات المفاهيمية، أطروحة «فرنسيس فوكوياما» عن نهاية التاريخ، وفرضية صدام الحضارات لدى «صمويل هنتنجتون»، والتي تبدو كبرامج إستراتيجية في خدمة النظام العالمي الجديد واستتباعاً فإنه وفي محاولة لتوجيه العولمة إلى التعاطي مع أسلوب الحياة الأمريكية يصوغ «جورج ريترز» سردية مفاهيمية لهذا التوجيه، في حديثه عن «الماكدونالدية» باعتبارها: "تلك العملية التي تنتشر بمقتضاها المبادئ الخاصة بالطعام السريع، وتصبح سائدة في قطاعات أوسع من المجتمع الأمريكي وبقية أرجاء العالم".


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)