تناولت في هذا البحث* عملية التخطيط الإستراتيجي في الميدان التربوي في أدنى مستوياته، أي على المستوى المدرسي، وهذا من أجل الكشف عن مدى إمكانية العمل وفق خطة إستراتيجية في مؤسسات التربية والتعليم الخاصة في ظلّ الإصلاحات التي خضع لها قطاع التربية والتعليم منذ عام 2003 في الجزائر، من أجل النهوض بالمنظومة التربوية التي تمر بفترات عصيبة وتحديات جسيمة كانت نتيجة ترسبات ثقيلة خلفها الاحتلال الفرنسي للجزائر خاصة في المجالين الثقافي والتربوي، كما أنّها تواجه حاليا أزمات عدّة في ظلّ التحولات الحاسمة المتسارعة في النظام العالمي إضافة إلى تبعات العولمة في شتى المجالات، ومن أجل تنشئة المواطن الصالح الذي يقيم الحضارة ويحرك عجلة التنمية،
عمدت أغلب الحكومات الجزائرية إلى المنظومة التربوية بغية إصلاحها وتطويرها حتى تساير هذه التغيرات والمستجدات من أجل إقامة الحكم الراشد والتنمية المستدامة وتجسيد مفاهيمهما واقعا، غير أن جلّ هذه الإصلاحات لم ترق بعد إلى القيام بدورها الحيوي والاستراتيجي في النهضة الحقيقية للدولة، بينما نجد في المقابل دولا أخرى استطاعت أن تحقق أكبر الانجازات في ظروف قاسية وأزمنة قياسية، ويعزى هذا أساسا إلى الاهتمام الجاد والواعي بالقطاع التربويّ والتعليميّ الذي هو أهمّ مداخل التغيير وأنجعها، إذ لا تتجلّى أهميّة هذا القطاع على المدى القريب أو المتوسط فحسب وإنما تظهر أساسا على المدى البعيد، ذلك أنّ العمليّة التربويّة لا تؤتي أكلها إلا بعد الفترة التي يمضيها الفرد تلميذا فطالبا، إلى أن يخوض غمار الحياة العمليّة ويصبح قادرا على الإنتاج والعطاء، أي بعبارة أخرى يمكن القول إنّ البعد الإستراتيجيّ هو الصفة المميّزة للمجال التربويّ والتعليميّ، وهو الكفيل بتطوير الدولة في مختلف جوانبها باعتباره أداة ووسيلة فعالة لتوجيه الأفراد من خلال النظام التعليمي والتربوي لتحقيق الأهداف البعيدة للنظام السياسي من أجل تحقيق التنمية المستدامة، من خلال تخطيط محكم يتولى عملية تنشئة الأفراد ليتولوا مسؤولياتهم المستقبلية بكفاءة ومسؤولية، كما يمكن أن يستغل هذا المدخل نفسه ويصبح من أفتك الوسائل التي تهدد هوية الدولة واستمرارية حضارتها وخصوصياتها إذا ما ترك خارج سيطرة الدولة ورقابتها، وهذا الخطر هو الذي كان يهدد مستقبل المنظومة التربوية الجزائرية والثوابت الوطنية لما اقتحم بعض الخواص ميدان التربية والتعليم لأزيد من عقد من الزمن خارج رقابة الدولة منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي قبل إقرار قانون مؤسسات التربية والتعليم الخاصة وضوابط نشاطها، وآليات الرقابة عليها، حيث حاولت الدولة من خلال هذا القانون الذي تزامن مع إصلاحات المنظومة التربوية الأخيرة، أن تفرض سيطرتها على هذا النوع من التعليم وأن توجهه تبعا لأهداف المنظومة التربوية الجزائرية، لكن الإشكال الذي بقي مطروحا لحد اللحظة هو عن مدى قدرة هذه التشريعات التربوية الجديدة على ضبط نشاط التعليم الخاص على المدى الإستراتيجي، حتى لا يحيد عن أهداف المنظومة التربوية الجزائرية، فهل استطاع هذا التشريع أن يحول دون وجود مخططات إستراتيجية لهذه المدارس خارج نطاق أهداف المنظومة التربوية الجزائرية وثوابت الدولة، أم أن هذا التشريع لا يزال قاصرا عن ذلك؟ فمن خلال دراستي لحالة المدرسة العلمية الجديدة الخاصة المعتمدة في الجزائر، والتي تعمل وفق خطة إستراتيجية، سأحاول بحث هذا الإشكال من الناحيتين التنظيرية والعملية.
ولا بد من الإشارة بداية إلى أنّ نشأة التخطيط الإستراتيجيّ كانت في الميادين العسكريّة والأمنيّة، ونظرا لأهميّته وفاعليّته فقد اتسع مجال استخدامه ليشمل مختلف المجالات الاقتصادية والمدنيّة الأخرى، وصولا إلى الميدان التربوي في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، وهذا عقب الأزمات التي عاشتها دول غرب أوربا وأمريكا الشمالية، والتي أثّرت سلبا على التحصيل المدرسيّ والأداء التربويّ، وقد تجلّت تداعياتها في إخفاقات طلبة هذه الدول في المسابقات الدوليّة خاصّة أمام طلبة دول شرق آسيا، ممّا دفع الحكومات إلى إعطاء إدارات المدارس مجالا واسعا من التصرف واللامركزية، لكن في ظلّ مواصفات محدّدة للمنهج الوطني، إضافة إلى خضوعها للمساءلة في جانب تحسين التعليم والتعلّم والأداء، فكانت هذه الحريّة واللامركزيّة أرضا خصبة لتبلور مفهوم التخطيط الإستراتيجيّ في الميدان التربوي.
ومع أهمية هذه الأداة التي انتقلت إلى الميدان التربوي حديثا، إلا أننا نكاد نجزم على غيابها في المنظومة التربوية الجزائرية إلى أمد ليس بالبعيد، أو على غيابها كلّية على مستوى المدارس العامة والخاصة على السواء، ذلك أن التخطيط التربويّ التقليديّ الذي كان سائدا في الجزائر يعتمد على المركزيّة الخانقة في كل صغيرة وكبيرة، سواء على المدى القريب أم المتوسّط، أما المدى الإستراتيجيّ –إن وجد- فإنه يذوب في المستويات التنفيذية على مستوى المدارس التي لها نطاق جدّ ضيّق من التصرّف والحرية في التعامل سواء مع المناهج أو البرامج، أو مع الموارد المادية والبشرية المتاحة، لكن الأمر أصبح مختلفا نوعا ما بعد ظهور قانون المدارس الخاصة ودفتر الشروط المتضمّن للضوابط المحددة لنطاق تصرّف هذه المدارس ومجال تحرّكها، مما جعل وضع خطط إستراتيجيّة لهذه المدارس ممكنا ضمن نطاق التحرّك الممنوح لها أو حتى خارجه، ليس من الناحية المادية فحسب بل وحتى من الوجهة القيمية والتغييرية داخل المجتمع، ولابد من الإقرار أن التخطيط الإستراتيجيّ في حقل العلوم الإنسانية عامة من الصعوبة بمكان حتى إنه ليبدو من الوهلة الأولى مستحيلا بالنظر إلى الارتفاع النسبي للاضطراب وعدم الاستقرار في هذا المجال، مما يصعب عملية الإسقاطات الخطية المستقبلية أو التنبؤ بالمسارات، هذا إضافة إلى تشابك العلاقات والفواعل في ظلّ العولمة، وتطوّر الاتصال وتكنولوجيا المعلومات.
والمدرسة العلمية الجديدة -حالة الدراسة المختارة- مؤسسة خاصة غير ربحية، تهدف إلى الإسهام في تغيير ما بالأمة الجزائرية والإسلامية من مدخل التربية والتعليم، وهي من بين أولى المدارس الخاصة المعتمدة في الجزائر، فقد تأسّست سنة 2003 ووضعت لها منحى إستراتيجيّا يمتدّ إلى غاية 2013، يبتدئ من مرحلة الأنموذج، ثم المحلية فالوطنيّة، وانتهاء بالعالمية، ولقد قطعت أشواطا هامة منها، كما كان لهذا المخطط عظيم الأثر في توجيه نشاطها وزيادة فعاليتها، فإلى أيّ مدى تمكنت هذه المدرسة – كحالة عن المدارس الخاصة- من الالتزام بخطّتها الإستراتيجيّة من الناحيتين النظرية والعملية خاصّة في ظلّ قانون المدارس الخاصة الحالي، وما يميّز البيئة التربوية الجزائرية؟ وهل ترقى هذه التجربة لكي تقدم بديلا للنظام التربوي الجزائري في منهج تغيير واقع المنظومة التربوية وزيادة فعاليتها؟
والإشكالية التي نهدف الإجابة عنها من خلال دراسة هذه الحالة تتمثل في الآتي:
انطلاقا من الإصلاحات التربوية التي شرع فيها منذ سنة 2003، والتي تضمنت في أهم بنودها فتح المجال للخواص من أجل إنشاء مؤسسات خاصة للتربية والتعليم في إطار المناهج والمقررات الوطنية، وفي ظل التشريعات التربوية والأنظمة الرقابية المحددة لنشاطها، وبالنظر إلى أهمية المجال التربوي وخطورة إمكانية استغلاله على حساب قيم الدولة والثوابت الوطنية من طرف القطاع الخاص، إلى أي مدى يمكن لمدرسة خاصة أن تلتزم بخطة إستراتيجيّة في ظلّ قانون المدارس الخاصة الحالي في الجزائر؟
وقد افترضت بداية أن التخطيط الإستراتيجي تقنية مرنة، ويمكن تطبيقها في الميدان التربوي مهما كانت طبيعة البيئة المحيطة بالمدرسة، وأن المدارس الخاصة لا يمكنها أن تضع خطة إستراتيجيّة شاملة وتلتزم بكلّ أهدافها الإستراتيجيّة، خاصة ما تعارض منها مع دفتر شروط إنشاء مؤسسات التربية والتعليم الخاصة وفتحها، وهذا بسبب وجود نظام رقابي على هذه المدارس يحول دون إمكانية الخروج عن ضوابط دفتر الشروط، كما افترضنا أيضا أن البيئة التربوية الجزائرية تمتاز بنسبة عالية من عدم الاستقرار سواء في أنظمتها الإدارية أو في تشريعاتها القانونية، مما يجعل إمكانية الالتزام بالخطط الإستراتيجية على مستوى المدارس الخاصة أمرا في غاية الصعوبة والتعقيد، إن لم يكن مستحيلا، في ظل التقلبات التي تعرفها المنظومة التربوية الجزائرية، إلا أنه وبالمقابل فقد افترضنا أن في قانون المدارس الخاصة ودفتر الشروط العديد من الثغرات التي تتيح لهذه المدارس امكانية استغلالها في تنفيذ خططها الإستراتيجية، ويفتح لها المجال واسعا للعمل بحرية على المدى الإستراتيجي، وهذا مهما كانت طبيعة أهدافها، مما قد يؤثر إيجابا أو سلبا على تنشئة التلاميذ وبناء هويتهم الوطنية وانتمائهم الحضاري.
وحتى أثبت صحة هذه الافراضات من عدمها، فقد اعتمدت مناهج البحث التالية:
أ- المنهج التحليلي: والذي استعملته لغرض اكتشاف الإشكاليات ومصدر الخلل في الظاهرة المراد دراستها، وهذا عبر ثلاث خطوات رئيسة تتمثل في الآتي:
- تفكيك النظام إلى عناصره الرئيسة المكونة له، واكتشاف العنصر موطن الخلل.
- دراسة الروابط: أي طبيعة الترابط والهيكلة التي تنبني عليها الظاهرة.
- دراسة التفاعل: وهو عبارة عن متغير غير ملموس يتعلق أساسا بالمعلومات المتنقلة بين أجزاء الظاهرة أو عناصر التنظيم، وهو ما يسمى بنظام المعلومات.
كما استخدمت أيضا المنهج التركيبي الذي يتبع المنهج التحليلي، ذلك أن المنهج التحليلي ينطلق من التفكيك العقلي للكل إلى أجزائه المكوِّنة له، وعناصره المُقِيمة لِبُنْيانه، ذلك أن الفكر البشري له نظرة عامة للأمور، وممارسةُ التحليل تُمَكِّنه من تجزئة الظاهرة ودراستها بعمق، لذلك فالمنهج التحليلي يُذكر دائما مقترنا بالمنهج التركيبيِّ لأنهما عمليتان عقليتان تقوم عليهما معظم المناهج، وهذا الأخير هو إعادة تأليف الجزئيات المعرفية والعلمية وتركيبها، فالتحليل يعتبر آلة تفسيرية تمكّن الباحث من التعمق والاندماج في صلب الموضوع ومن ثَمَّ التحكم فيه، ويوصله إلى الإجابة على الأسئلة والاستفسارات التي تبدو له غامضة في أول الأمر فيزيل غموضها، ومن ثم يستطيع الإحاطة بكافة جوانب الظاهرة أو الإشكال محل الدراسة.
ولقد استخدمت هذا المنهج في كامل خطوات البحث تقريبا، بدءا من تحليل مفهوم التخطيط الإستراتيجي المدرسي، ومرورا بدراسة واقع المنظومة التربوية، وانتهاء بدراسة حالة المدرسة العلمية التي استخدمت هذا المنهج في دراستها، لأتمكن من الوقوف على مختلف حيثيات عملية التخطيط الإستراتيجي فيها من الناحيتين النظرية والتطبيقية، وكذا فيما يتعلق بصياغتها وتنفيذها.
ب- منهج دراسة الحالة: لدراسة واقع المدرسة العلمية والتعرف على مختلف مفاهيمها ومناهجها، وآليات عملها، وتحليل خطتها الإستراتيجيّة، سواء من حيث صياغتها أو من حيث تنفيذها، إضافة إلى التعرف على مختلف مكونات بيئتها الداخلية ومميزات بنيتها التنظيمية، وتقييم مدى ملاءمتها للالتزام بالخطة الإستراتيجية، وهذا بناء على الخصائص التي تم التطرق إليها في الجانب النظري من هذه الدراسة، وهدفنا من دراسة هذه الحالة هو التعرف على مدى إمكانية نجاح التخطيط الإستراتيجي على مستوى المدارس الخاصة ضمن البيئة التربوية الجزائرية.
ج- المنهج المقارن: وقد استعملت هذا المنهج في عدة مواطن من هذا البحث، حيث وظفته للمقارنة بين مختلف التشريعات القانونية في الميدان التربوي، في الفترة الممتدة من الاستقلال إلى وقتنا الراهن، أي إلى غاية صدور القانون التوجيهي للمنظومة التربوية الجزائرية رقم 08-04 المؤرخ في 23 جانفي 2008، وهذا من أجل محاولة الكشف عن الثابت والمتغير فيها، من أجل التعرف على التوجهات الأساسية للمنظومة التربوية الجزائرية، كما اعتمدت هذا المنهج أيضا للمقارنة بين الخطة الإستراتيجيّة المصاغة في المدرسة العلمية والتجسيد الفعلي لها، من أجل محاولة الكشف عن مواطن الخلل والانحرافات العملية، إضافة إلى إسقاط مختلف العناصر المكونة للمدرسة العلمية شكلا ومضمونا؛ مع ما ينبغي أن تكون عليه المنظمات التي لها تخطيط إستراتيجي، من حيث بنيتها التنظيمية ونظام المعلومات فيها، والتي فصلت عناصرها في الفصلين الأولين من هذا البحث.
د- منهج تحليل مضمون مادة قانونية: في التعامل مع دفتر الشروط والنصوص القانونية المدرسة لإنشاء للمدارس الخاصة ورخص فتحها، لفهم مضامينها وتحديد أبعادها.
ولقد ساعدني هذا المنهج على تحديد البعد الإستراتيجي لقانون المدارس الخاصة، وكذا لمختلف مواد دفتر الشروط، كما مكنني أيضا من الوقوف على بعض أوجه القصور فيهما، خاصة فيما يتعلق بأنظمة الرقابة والتفتيش.
هذا من حيث منهج الدراسة، أما محتوى الدراسة وما توصلت إليه من نتائج فقد صغته بناء على الأسئلة الفرعية المتدرجة عن الإشكال العام للبحث، فقد استعرضت بداية مفهوم التخطيط الإستراتيجي المدرسي وأهميته، وظروف نشأته وتطوره، والتي تتشابه فيها لحد كبير مع المرحلة التي تعيشها البيئة التربوية الجزائرية حاليا، فلقد كانت بداية التخطيط الإستراتيجي في المجال العسكري، ثم انتقل بالتدريج إلى المجالات المدنية الأخرى، ويعتبر ميدان إدارة الأعمال من أهمّ القطاعات التي تبلورت فيها اتجاهات التخطيط الإستراتيجي وآلياته، وبسبب الميزة الإستراتيجية للفعل التربوي والتعليمي؛ فقد استثمر هذه الأداة لزيادة الكفاءة وتيسير سبل التحصيل المدرسي والتربوي من خلال أدوات التحليل الإستراتيجي والتوجيه المستقبلي، بما يمكّن المدرسة من بلوغ أهدافها التعليمية والتربوية بكفاءة عالية، ووفق أنجع الطرق وأكثرها فاعلية، وهذا بعد دخول المؤسسات التعليمية غمار المنافسة بسبب الخصخصة واقتصاد السوق، مما جعلها تستثمر العديد من الآليات المعتمدة في قطاع إدارة الأعمال بما في ذلك التخطيط الإستراتيجي، وقد كان هذا في بداية التسعينيات من القرن الماضي بإنجلترا، وبما أن النظام التربوي في الجزائر قد فتح المجال لاستثمار الخواص فبإمكان المدارس الخاصة أن تستثمر آليات التخطيط الإستراتيجي من أجل رفع مستوى أدائها وكفاءتها، خاصة في ظل معطيات البيئة التربوية الجزائرية وما يميز النظام السياسي والإداري في الجزائر.
فالتخطيط الإستراتيجي المدرسي ليس أداة لحل كل الإشكاليات الإدارية كما أنه لا يلغي الوظائف الإدارية المعروفة من تخطيط ومتابعة وتقييم للأداء وغيرها، ولكنه يمدها بالبعد الزمني المستقبلي البعيد المدى من أجل توجيه الجهود والاستغلال الأمثل للطاقات مع استثمار نقاط قوة المدرسة وتدارك مواطن ضعفها، والاستفادة من مختلف الفرص الموجودة في البيئة المحيطة بها، ويمكن أن نجمل الخطوات الأساسية للتخطيط الإستراتيجي المدرسي في الآتي:
أولا- التحليل الإستراتيجي: ويهدف إلى المعرفة الدقيقة بواقع المدرسة وبيئتها الخاصة والعامة من خلال تقنيات التحليل الإستراتيجي التي من أهمها تقنيتا SWOT وBCG، حيث يركز تحليل البيئة الخارجية للمدرسة على التعرف على مختلف فرصها وتحدياتها من أجل الاستعداد لمواجهتها أو التكيف معها، وهذا بمختلف مجالاتها: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية، بينما يرتكز التحليل الداخلي في الأساس على ما يلي:
أ- طبيعة البنية التنظيمية: إذ ينبغي أن يتمتع التنظيم المدرسي بقدر عال من المرونة والحرية حتى يتمكن من التكيف مع الطوارئ والمستجدات بفاعلية دون أن يفقد تماسكه أو ينحرف عن مساره الإستراتيجي، وهذا كشرط أساس للالتزام بالخطة الإستراتيجية، إذ ينبغي أن تكون البنية التنظيمية كما يراها بير دالان " Per Dalin" أشبه بالخيمة، وذات طبيعة شبكية وليس هرمية، وذات توجيه داخلي مستقل وليس خارجي تابع، كما ينبغي أن تتميز بأقل نسبة ممكنة من الاعتمادية بين عناصرها، وهو ما يسميه كل من "شونا" و"كاثلين" بوضعية حافة الفوضى وهي التي تكون وسطا بين حالة التماسك الشديد "البيروقراطية" واللاتماسك "الفوضى"، فإستراتيجية حافة الفوضى تجعل من المدرسة مؤسسة إبداعية مرنة سريعة التكيف والتأقلم مع المستجدات، وسهلة التغير في حالة الأزمات، وتمتاز المدرسة العلمية الجديدة بالعديد من هذه الصفات الإيجابية في بنيتها التنظيمية انطلاقا من تحليلي لبعض المفاهيم التي تعمل بها، وتعاملها مع بعض الأزمات التي مرت بها.
ب- نظام المعلومات: لهذا العنصر دور جوهري في إنجاح عملية التخطيط الإستراتيجي، حيث ينبغي أن يتميز نظام المعلومات بسرعة السيولة والفاعلية سواء في الحصول على المعلومات من مختلف مستويات التنظيم، ومن البيئات الخارجية بأنواعها، وكذا في معالجتها واتخاذ قرارات مناسبة في آنها، حيث ينبغي أن يكون معدل سرعة الحصول على المعلومة ومعالجتها واتخاذ قرار بشأنها أسرع من معدل سرعة التغير في البيئة مصدر المعلومة ضمانا لفعالية القرار وملاءمته لما اتُّخذ من أجله، ويمتاز نظام المعلومات في المدرسة العلمية بقدر عال من النجاعة انطلاقا من جملة من الآليات التي يعتمدها، كنظام " STOP CARD" ولقاءات سيولة المعلومة الأسبوعية على مستوى الإدارة العامة، واللقاءات الأسبوعية للإدارة مع الطاقم التربوي للمدرسة، إضافة إلى المنتدى التربوي في موقعها الإلكتروني، كل هذه الآليات وغيرها جعلت نظام المعلومات في المدرسة العلمية ذا كفاءة عالية مكنته من اتخاذ العديد من القرارات حالت دون تفاقم الإشكاليات أو حدوث انحرافات أو انزلاقات.
ثانيا- صياغة الإستراتيجية: والتي تنبني على مبدأ التشاركية، والعمل الجماعي في مختلف خطواتها، والركيزة الأساسية في صياغة الإستراتيجية هي ضبط العناصر الموجهة للخطة الإستراتيجية والمتمثلة في: القيم والمفاهيم والمبادئ، ثم ضبط رسالة المدرسة ورؤيتها الإستراتيجية، وعلى ضوء ذلك تحدد الأهداف الإستراتيجية، وعملية تحديد هذه العناصر تتم بصفة تفاعلية وليست تراتبية نظرا للترابط الوثيق بينها، كما تصاغ الإستراتيجية وفق إحدى المداخل التي تم تفصيلها أو بالمزاوجة بينها حسب خصوصية المؤسسة التعليمية، ومن بين هذه المداخل: مدخل تحليل النظم، ومدخل الكفاءات والمعايير ومدخل العميل، وقد تطرقت إلى كل منها بالتفصيل، وما توصلت إليه من خلال دراسة حالة المدرسة العلمية الجديدة أن عملية صياغة إستراتيجيتها لم تكتمل بعد، حيث إن نشاطها يرتكز على مقومات رئيسة وواضحة تتمثل في كل من الغاية والرسالة والهدف الإستراتيجي العام، إضافة إلى جملة من المفاهيم والقيم المحددة، إلا أنها تفتقر إلى رؤية واضحة وأهداف تفصيلية محددة بفترات زمنية دقيقة بالنسبة لمشاريعها التحتية، إضافة إلى جوانب أخرى لم تكتمل بعد في خطتها جعلت استفادتها من مكاسب التخطيط الإستراتيجي ومزاياه غير تامة، وهذا ما جعلني أستنتج أن للمدرسة العلمية حاليا توجه إستراتيجي لم يرق بعد إلى التخطيط الإستراتيجي الدقيق، كما خلصت أيضا إلى أن للمدرسة مزايا داخلية وفرصا خارجية تجعل أمر تحولها من الأول إلى الثاني أمرا ممكنا ويسيرا.
ثالثا- تقييم الإستراتيجية ومتابعة الأداء: تطرقت في هذه الدراسة إلى شقين من التقييم أحدهما يتعلق بالإستراتيجية نفسها ومدى تلاؤمها مع المتغيرات البيئية، بينما يتعلق الجزء الثاني بتقييم أداء العاملين، حيث إن هدف هذا الجزء الأخير هو الكشف عن الانحرافات أو الاختلالات والتباينات بين الأداء الفعلي وما ينبغي أن يكون، وبإسقاط هذه العملية على المدرسة العلمية، وجدت أن اهتمام المدرسة العلمية انصبّ على الجانب الثاني والمتعلق بالأداء الوظيفي للطاقم التربوي بينما لم يول الاهتمام اللازم بالجانب الأول المتعلق بتقييم الإستراتيجية نفسها، إذ لا توجد لقاءات دورية منتظمة خاصة بهذا الغرض خاصة بعد فترة الأنموذج، مما تسبب في انحراف الأداء عن بعض ما تحتويه الإستراتيجية، تجلى في اقتصار التوسعة على المحلية دون الوطنية، وعدم التخطيط المحكم للانتقال من مرحلة لأخرى.
وبما أن دراستي هذه تتناول موضوع التخطيط الإستراتيجي المدرسي ضمن قانون المدارس الخاصة وخصوصيات البيئة التربوية الجزائرية، فقد قمت باستقراء مجمل التشريعات التربوية الصادرة بعد الاستقلال، وحاولت من خلالها أن أستخلص التوجهات الأساسية للمنظومة التربوية الجزائرية، ونسبة الثبات والتغير فيها، فوجدت أن كل الأمريات والقوانين الصادرة في هذه الفترة تركز على ثلاث مبادئ رئيسة تتمثل في:
- ترسيخ المبادئ الإسلامية والوطنية.
- تعريب المناهج والمقررات وجزأرة التعليم.
- مجانية التعليم وديمقراطيته وإلزاميته.
كما استعرضت أيضا البعد الإستراتيجي في قانون المدارس الخاصة ودفتر الشروط معتمدا في ذلك على منهج تحليل مضمون المواد القانونية، كما توقفت أيضا عند مختلف المواد القانونية التي تستطيع الدولة من خلالها فرض رقابتها على أداء المدارس الخاصة، فاستنتجت قصور هذه التشريعات القانونية والأنظمة الرقابية عن الإحاطة بكل نشاط المدارس الخاصة والحيلولة دون حدوث تجاوزات خاصة في ظل غياب قنوات الاتصال المفتوحة بين الأطراف الفاعلة في الميدان التربوي (أساتذة، أولياء، تلاميذ) والهيئات التربوية الرسمية، وتفشي مختلف الأمراض الإدارية.
وفي الأخير تناولت دراسة حالة التخطيط الإستراتيجي في المدرسة العلمية الجديدة الخاصة، بمختلف مراحله، بدءا من عملية الصياغة وتحديد مختلف العناصر الموجهة للخطة الإستراتيجية، ووقوفا عند ما يميز البنية التنظيمية للمدرسة العلمية بمختلف جوانبها، وانتهاء بتقييم مدى التزامها بخطتها الإستراتيجية، وحجم تأثير الهيئات الرسمية على هذه العملية، وكل هذا من أجل التوصل إلى استنتاج مدى إمكانية نجاح هذه الوسيلة – التخطيط الإستراتيجي- على مستوى المدارس الخاصة في ظل التشريعات القانونية المنظمة لها، والممارسات الميدانية لأنظمة الرقابة في البيئة التربوية الجزائرية، لأثبت صحة ما انطلقت منه من فرضيات أو أنفيها.
ويمكن أن أجمل ما توصلت إليه من نتائج في ختام هذا البحث في الآتي:
- يعتبر التخطيط الإستراتيجي أداة هامة في توجيه الجهود، والاستثمار الأمثل لطاقات المؤسسة، مع الاستفادة القصوى من الفرص التي توفرها البيئة الخارجية، وبالإمكان تطبيق آليات التخطيط الإستراتيجي وتقنياته في الميدان التربوي نظرا لطبيعته الإستراتيجية، والاستفادة منه في تنظيم عمل المدرسة، وتوجيه نشاطها على المدى الإستراتيجي، فالعملية التربوية في جوهرها فعل منظم موجه وهادف، وليس عملا عشوائيا اعتباطيا.
- يمتاز التشريع المدرسي الجزائري بنسبة عالية من الثبات فيما يتعلق بمبادئه وتوجهاته الأساسية، فجلّ التغيرات الحاصلة في النظام التربوي الجزائري لم تمس مبادئ المنظومة التربوية الجزائرية وتوجهاتها، بل مست المناهج والآليات والوسائل، وهذا ما يمنح المدارس الخاصة حظوظا واسعة في تجسيد خططها، وتحقيق أهدافها الإستراتيجية، خاصة إذا كانت ضمن هذه المبادئ والتوجهات.
- التشريع القانوني والنظام التفتيشي والرقابي على نشاط المدارس الخاصة في الجزائر، فعاليته محدودة ميدانيا في الوقت الراهن، خاصة في ظل وجود بعض الثغرات القانونية، وتفشي الأمراض الإدارية، وهذا ما يعطي المدارس الخاصة فرصا هائلة لبلوغ أهدافها الإستراتيجية، ولو كانت خارج نطاق مبادئ المنظومة التربوية الجزائرية وتوجهاتها.
- إن هذا القصور في التشريع القانوني والنظام الرقابي، وعجزه عن ضبط النشاط الميداني للمدارس الخاصة ومراقبة ممارساتها الفعلية، يمكن أن يشكل تهديدا حقيقيا على تنشئة الأجيال القادمة من طرف بعض المدارس التي تعمل ضمن أهداف المنظومة التربوية ومبادئها ظاهريا، إلا أنها تعمل بالمقابل بأريحية تامة في تنشئة التلاميذ على ما تشاء من قيم وتوجهات إستراتيجية، من خلال ازدواجية برامجها، واعتمادها على مقررات أجنبية تحت غطاء تسميات للتمويه أمثال: أنشطة الدعم اللغوي أو ما شابهها، مما يستلزم ضرورة تطوير الأنظمة الرقابية وآلياتها، ليس في جانبها الشكلي فحسب، بل باستحداث آليات للاطلاع الفعلي على الممارسات الميدانية والأهداف غير المعلنة، وهذا من خلال فتح قنوات اتصال مباشرة مع رجال التربية ومع التلاميذ وأوليائهم، هذا إضافة إلى السعي من أجل معالجة الأمراض الإدارية المستفحلة كالرشوة والمحسوبية وغيرها، للحيلولة دون استغلالها في استعمار جديد، لا تظهر نتائجه الفعلية إلا بعد جيل أو حين، في تهديد مباشر لهوية المجتمع الجزائري.
ولا بد من الإشارة إلى أن تجربة المدارس الخاصة في الجزائر لاتزال في بداياتها نسبيا، وأنها بحاجة إلى المزيد من البحوث والتشريعات لضبط نشاطها، وتحفيزها من أجل المساهمة البناءة في إيجاد حلول علمية حقيقية للمشاكل التي تتخبط فيها المنظومة التربوية الجزائرية، وهذا بعيدا عن الترقيع والارتجال وفي منأى عن أي تسييس، كما أن موضوع التخطيط الإستراتيجي المدرسي لايزال حديث النشأة كذلك، وفي الجزائر خصوصا، لذلك فهو بحاجة إلى دراسات أكثر عمقا وتخصصا، من أجل استحداث آليات دقيقة ملاءمة لرفع التحديات التي تعيشها المنظومة التربوية، والمدارس الجزائرية. كما أن هذا الموضوع وإن كنت قد تناولته تحديدا على مستوى المدارس الخاصة، إلا أن بالإمكان استثمار نتائجه على مستوى المدارس العمومية أيضا باعتبار أن الحالة التي تمت دراستها (المدرسة العلمية الجديدة الخاصة) مؤسسة غير ربحية، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار حدود المسؤولية ومجال حرية التصرف في المدارس العمومية، التي إن أردنا تطويرها فعلينا إعطاءها المزيد من الحرية واللامركزية ضمن مواصفات محددة للمنهاج الوطني ومعايير الجودة، وخضوعها للمساءلة في هذين الجانبين، حتى ننهض بمستوى التربية والتعليم في بلادنا، ونفتح المجال لبروز تجارب وإنجازات ومبادرات أصيلة، لا أن نبقى رهائن لما يتوصل إليه الغير، وسوقا إستهلاكية تكرّس التبعية الفكرية والهيمنة الثقافية التي هي أخطر أنواع الاستعمار.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 10/05/2011
مضاف من طرف : SCOUBIDOU
صاحب المقال : ياسين بن محمد شريفي
المصدر : veecos.net