الشوط الأخير.. بعد التخلص من "عقدة" الصحراء
خديعة اختطاف طائرة الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني (22 أكتوبر 1956)، استفتاء "تقرير المصير" المشروط باختيار "الشراكة" (16 سبتمبر 1959)، سوء تفاهم "مولان" (25 ـ 29 يونيو 1960).. مثل هذه الأحداث وغيرها أدت إلى خلق "عقدة تواصل" بين ممثلي الثورة الجزائرية والحكومة الفرنسية، هذه "العقدة" سعى الطيب بولحروف ـ مندوب الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بكل من إيطاليا وسويسرا - إلى فكها، مستعينا في ذلك بالوساطة السويسرية.
في 23 ديسمبر 1960 تمكن مندوب الحكومة المؤقتة من مقابلة مسؤول سويسري بواسطة المحامي "ريمون نيكولي" المتعاطف مع قضايا التحرر الوطني، وصديقة المحامي أيضا جان لاليف، لينقل إليه رغبة حكومته في إجراء محادثات مباشرة مع الفرنسيين، على أن يتولى وسيط سويسري التمهيد لذلك، تفاديا لتكرار سيناريو "مولان" قبل تمام ستة أشهر.
هذا المسؤول السويسري هو السيد "أوليفي لونغ" (*) الذي لم يقع الإختيار عليه عفويا، بل لعلاقة خاصة تربطه برجل ثقة الرئيس الفرنسي شارل دوغول في موضوع الجزائر بالذات: "لويس جوكس" وزير الدولة الملكف بالشؤون الجزائرية.
استمع "لونغ" إلى بولحروف باهتمام، مفضلا تأجيل جوابه إلى ما بعد استفتاء 8 يناير 1961 بفرنسا، هذا الإستفتاء الذي طلب فيه الرئيس الفرنسي من شعبه تفويضا صريحا لتسوية المشكلة الجزائرية. وغداة الإعلان عن نتائج الإستفتاء مباشرة قدرت الخارجية السويسرية أن الرئيس دوغول حصل من شعبه على التفويض المنشود، فأذنت للسيد "لونغ" أن يشرع في جس نبض الجانب الفرنسي بصفتة شخصية محضة.
وعلى هذا الأساس كان له أول لقاء ـ سري ـ مع جوكس بباريس في 10 يناير، وكانت المفاجأة سارة، لأن الجانب الفرنسي كان بدوره في أمس الحاجة لمن يهديه إلى طريق الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية! هذه الحاجة عبر عنها الرئيس الفرنسي شخصيا مساء نفس اليوم بقوله لجوكس: "أبلغ لونغ أن بإمكانه مواصلة مهتمته"!
وبعد نحو أسبوعين ضبط الرئيس دوغول موضوع الإتصال التمهيدي بالحكومة المؤقتة كما يلي: عقد لقاء شبه رسمي بين شخصيات مؤهلة، لمناقشة مختلف جوانب المشكلة، ودراسة ما تطرح من مواضيع بعمق".. ويعني ذلك أن الجانب الفرنسي أصبح مستعدا لبحث المسائل السياسية المتعلقة باستفتاء تقرير المصير، أي تخلي عن حصر التفاوض في وقف القتال، والجوانب العسكرية للمشكلة دون سواها.
لكن عندما رشح للإتصال التمهيدي رجل ثقته جورج بومبيدو، مدير بنك "روتشليد" بباريس، يومئذ، تحفظ الجانب الجزائري على ذلك أول وهلة، لأن الرجل لا يحتل منصبا رسميا في جهاز الدولة بفرنسا، ما اضطر الوسيط السويسري إلى محاولة إقناع بولحروف، بأن "بومبيدو مكلف بمهمة مؤقتة من الرئيس دوغول شخصيا"، فضلا عن كونه رجل ثقته، وربما يأتي من حيث الأهمية بعد وزير الدولة جوكس مباشرة.
وهكذا التقى بـ"لوسان" (سويسرا) في 19 فبراير الموالي أحمد بومنجل وبولحروف بكل من "بومبيدو" و "برونو دولاس" مدير الشؤون السياسية في الخارجية الفرنسية. انتهى هذا اللقاء الأولي ـ الذي استغرق سبع ساعات ـ بانطباع حسن من الطرفين، وارتياح متبادل لمستوى المندوبين، وتلاه لقاء ثاني بـ"نوشاتل" في 5 مارس، كشف عن عمق الخلافات الجوهرية، لاسيما ما كان منها يتعلق بنقطتين:
ـ مجال استفتاء تقرير المصير الذي كان الجانب الفرنسي يريد حصره في الشمال دون الصحراء.
ـ اشتراط الجانب الفرنسي إعلان هدنة مؤقتة، بالتزامن مع بدء المفاوضات المنتظرة.
وكان مكان التفاوض نفسه محل خلاف:
طلب فرنسا أن يتم على ترابها، وتمسك الحكومة المؤقتة بأن يكون في بلد محايد، وتوصل الطرفان في نهاية المطاف إلى حل وسط: مدينة "إيفيان" للتفاوض، مع إقامة الوفد الجزائري بضواحي جنيف (بوا دافو). اتفق الطرفان طبعا على تذليل مختلف المسائل الشائكة خلال المفاوضات التي تقرر الشروع فيها بداية في 7 أبريل 1961، لكن كانت هناك طوارئ تسببت في تأجيل الإنطلاق إلى 20 مايو الموالي.
من هذه الطوارئ:
ـ تصريح جوكس في وهران، يوم 30 مارس، أن فرنسا تنوي إجراء محادثات مع "الحركة الوطنية الجزائرية" (المصالية) أيضا.
ـ إجراء عملية جراحية ـ على المرارة ـ لرئيس الوفد الجزائري بلقاسم كريم وزير الخارجية.
ـ محاولة الإنقلاب الفاشلة التي قادها ليلة 22 أبريل الجنرال موريس شال وشركاؤه من أمثال "صلان" و"جوهو"..
وعشية لقاء إيفيان، حرص الرئيس الفرنسي على إعطاء تعليماته المتعلقة بالقواعد البرتوكولية بخط يده، فكانت كما يلي:
- "لا مصافحة بين الوفدين داخل قاعة التفاوض ولا خارجها!"، لذا كانت عناصر الوفدين تكتفي بإيماءات رأسية!.
- استمرار لقاء إيفيان الأول نحو ثلاثة أسابيع دون أن يوفق الطرفان إلى تخطي العقبات الجوهرية: مجال استفتاء تقرير المصير، ضمانات الأقلية الأوروبية، مسألة الجنسية لهذه الأقلية، الوجود العسكري الفرنسي بعد تقرير المصري، وكذلك قواعد التجارب النووية والكيماوية والباليستية.. وأمام تمسك الوفد الجزائري بالوحدة الوطنية والترابية طلب الوفد الفرنسي تعليق المفاوضات إلى أجل غير مسمى، وذلك في 13 يونيو 1961. غير أن المفاوضات ما لبثت أن استؤنفت في "لوغران" (فرنسا)، لتستغرق أسبوعا (من 20 إلى 28 يوليو) دون أن تحرز تقدما يذكر، ما جعل كريم ورفاقه يبادرون بتعليقها تحت غطاء حوادث بنزرت في تونس خلال نفس الفترة..
وقد كشفت مفاوضات إيفيان الأولى عن رغبة شرائح واسعة من الشعب الفرنسي في نجاح المفاوضات وإحلال السلام بالجزائر، بدليل أن مقر إقامة الوفد الجزائري بضاحية "بوا دافو" تحول إلى مزار يتردد عليه الفرنسيون بالحافلات أحيانا لإبداء تعاطفهم وتشجيعهم. وأحرجت هذه الزيارات العفوية الحكومة الفرنسية، إلى درجة أن طلبت من نظيرتها السويسرية منع الزوار من دخول أراضيها!
(1) في كتابه الصادر عن ديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر سنة 1989 بعنوان:
Le Dosier Secret des accords d'Evian
(الملف السري لإتفاقيات ايفيان)
الشوط الأخير.. بعد التخلص من "عقدة" الصحراء
في 5 سبتمبر 1961 عقد الرئيس دوغول مؤتمرا صحفيا، خطا فيه خطوة هامة باتجاه الإعتراف بوحدة الجزائر الترابية، فقد أقر صراحة بالواقع، مقايضا ذلك بحماية مصالح فرنسا في الصحراء الجزائرية.
ـ فقد أقر بالواقع قائلا: "ليس هناك جزائري واحد لا يعتقد أن الصحراء جزء من الجزائر، وليست هناك حكومة جزائرية واحدة، مهما كان موقفها من فرنسا، تقبل التخلي عن واجب المطالبة دون هوادة بالسيادة الجزائرية على الصحراء".
ـ وربط أخذ هذا الواقع بعين الإعتبار بحماية مصالح فرنسا التي تعني حسب قوله: "حرية استغلال النفط والغاز، ما اكتشفت منه، وما سيكتشف من قبل شركاتنا.. مع الإحتفاظ ببعض المطارات، وضمان حرية الإتصال بإفريقيا السمراء"..
وفي 25 من نفس الشهر حل بولحروف، مندوب الحكومة المؤقتة بجنيف، لينقل إلى الوسيط السويسري "أوليفيي لونغ" استعداد حكومته ـ مقابل هذه الخطوة من الجانب الفرنسي ـ منح ما يلزم من ضمانات للأقلية الأوروبية.
تلت هذه المبادرات سلسلة من الإتصالات، انتهت إلى نتيجة عقد لقاء تمهيدي سري على مستوى الخبراء، لفتح الطريق أمام مرحلة جديدة من المفاوضات، قد تكون حاسمة ونهائية.
وفي هذا الإطار شهدت ضاحية مدينة "بال" لقاءين بين محمد بن يحيي ورضا مالك من جهة، و"برونو دولاس" و"كولد شايي" من جهة ثانية، عقد الأول يومي 28 و 29 أكتوبر وتلاه الثاني أيام 8 إلى 10 نوفمبر الموالي، وتم بالمناسبة حصر أهم القضايا المحورية: موضوع الجنسية، المرحلة الإنتقالية وتشكيلة الهيئة التنفيذية المؤقتة، وضع الجيش الفرنسي وبرنامج انسحابه، الصحراء بما في ذلك القواعد الجوية الفرنسية، ومحطة رڤان للتجارب النووية.
لقاء الخبراء فتح الطريق لسلسلة من الإجتماعات بين سعد دحلب ووزير خارجية الحكومة المؤقتة، ولويس جوكس وزير الدولة المكلفة بالشؤون الجزائرية.
كان الإجتماع الأول بين الوزيرين يوم 9 ديسمبر في بلدة "لي روس" ناحية "جورا" (فرنسا)، وكان من نتائجه الإذن بزيارة الوزراء السجناء الخمسة بعد نقلهم إلى قصر "أونوا" بضواحي "مولان"، وكان بن يحيى أول زائر لهم في 15 ديسمبر (*). وخلال الإجتماع الثاني في 25 من نفس الشهر قدم جوكس لدحلب مشروع بيان، بهدف دراسته وتقديم بيان بديل عنه. وفي أواخر ديسمبر اجتمع الوزيران للمرة الثالثة بنفس المكان، وكان اللقاء الرابع والأخير بعد شهر من ذلك، وحضره جوكس رفقة خبير عسكري.. هذه الإتصالات وغيرها توجت بلقاء سري موسع في "لي روس" دائما، بين وفدين برئاسة بلقاسم كريم نائب رئيس الحكومة المؤقتة، الملكف بالشؤون الداخلية، وجوكس وزير الدولة الفرنسي.
استغرقت المفاوضات السرية أكثر من أسبوع (من 10 إلى 18 فبراير 1962)، توصل الطرفان خلالها إلى حلول توفيقية حول مجمل المواضيع الخلافية التي كانت سببا في فشل إيفيان الأولى..
وكان على الوفد الجزائري أن يعرض مشروع الإتفاقات على المجلس الوطني للثورة الجزائرية لمناقشته وإثرائه، والإذن للحكومة المؤقتة بمفاوضة الفرنسيين رسميا على أساسه.. وكانت دورة التزكية هذه بطرابلس من 22 إلى 27 فبراير، حيث حصل المشروع على إجماع منقوص من أربعة أصوات: العقيد هواري بومدين، نائبيه في هيئة الأركان العامة الرائدين أحمد قايد (سليمان) وعلي منجلي، والرئد مختار بوعيزم (ناصر) عضو مجلس الولاية الخامسة.
وعلى هذا الأساس انطلقت مفاوضات إيفيان الثانية في 7 مارس، لتنتهي في 18 منه، بالتوقيع على الإتفاقيات المعروفة، وفي مقدمتها اتفاق وقف القتال الذي دخل حيز التطبيق ابتداء من منتصف نهار 19 مارس.
هذا التاريخ الذي أصبح ـ لاحقا ـ عنوانا لعيد النصر الذي يحتفل هذه الأيام بذكراه الخمسين.
نصوص اتفاقيات إيفيان
"إتفاقيات ايفيان" هي عبارة عن مجموعة من الإعلانات حول مجمل المواضيع المتفق عليها بين الطرفين الجزائري والفرنسي.. من هذه الإعلانات:
1ـ اتفاق وقف القتال الذي أصبح نافذا في عموم الجزائر ابتداء من منتصف نهار 19 مارس 1962.
2ـ إعلان مبادئ عام، هو عبارة عن ديباجة لمختلف البيانات القطاعية ـ الفرعية، ويخص الفصل الأول منه تنظيم السلطات العمومية خلال المرحلة الإنتقالية الممتدة بين وقف القتال وانتخابات المجلس الوطني التأسيسي واستلامه "أدوات السيادة" من الهيئة التنفيذية المؤقتة برئاسة عبد الرحمان فارس.
3ـ إعلان حول الضمانات الممنوحة للأقلية الأوروبية، على أساس افتراض بقائها في الجزائر المستقلة. وقد حرص الجانب الفرنسي في المفاوضات على أن تكون هذه الضمانات واسعة جدا، مع تأسيس محكمة خاصة لحمايتها.
4ـ ستة إعلانات مبادئ حول:
ـ التعاون الإقتصادي المالي
ـ التعاون في مجال استغلال الثروات الباطنية للصحراء
ـ التعاون الثقافي
ـ التعاون الفني
ـ المسائل العسكرية (المرسى الكبير، قواعد التجارب النووية والكمياوية والباليستية، تسهيلات التنقل برا وجوا وبحرا، وضعية القوات الفرنسية بالجزائر عامة إلخ)
ـ تسوية الخلافات..
سلطات المرحلة الإنتقالية واستفتاء تقرير المصير
أصدرت الحكومة الفرنسية في 19 مارس 1962 مرسومين:
ـ الأول لوضع قرار تنظيم السلطات العمومية خلال المرحلة الإنتقالية موضع التنفيذ، ويتضمن تأسيس وتشكيلة الهيئات الثلاثة التالية:
ـ المحافظ السامي، ممثل السيادة الفرنسية طوال المرحلة الإنتقالية.
ـ الهيئة التنفيذية المؤقتة، وهي هيئة "متساوية الأعضاء" من 12 عضوا، ويضع المرسوم تحت تصرف هذه الهيئة قوة لحفظ الأمن (القوة المحلية) من 40 ألف رجل، ويمكن أن تتسع لـ 60 ألف رجل..
ـ مرسوم ثان صادر عن الحكومة الفرنسية بنفس التاريخ، حول تنظيم استفتاء تقرير المصير في عموم الجزائر (15 ولاية بما في ذلك الولايتان الصحراويتان: الساورة والواحات).
الوفد الجزائري في إيفيان الثانية:
ـ بلقاسم كريم، نائب رئيس الحكومة ووزير الداخلية
ـ عبد الله بن طبال، وزير الدولة
ـ سعد دحلب، وزير الخارجية
ـ أحمد يزيد، وزير الأخبار
وضم الوفد إلى جانب الوزراء الأربعة الخبراء بولحروف وبن يحيى ورضا مالك والصغير مصطفاي (المالية)، فضلا عن عمار بن عودة (بن مصطفى) باسم جيش التحرير الوطن.
دشن بن يحيى الزيارات الرسمية للوزراء السجناء بهدف اطلاعهم على سير المفاوضات السرية، والإسترشاد بآرائهم، والحصول على موافقتهم في نفس الوقت. وقد تلاه عبد الله بن طوبال ـ وزير الدولة ـ بين 27 و 29 ديسمبر1961، قبل أن يعود إليهم رفقة كريم وبن يحيى من 31 يناير إلى 2 فبراير 1962.
وزار الوزراء السجناء في غضون الأسبوع الثالث من ديسمبر 1961 ـ بعد بن يحيى ـ الضابط عبد العزيز بوتفليقة الذي نقل إليهم تقريرا مفصلا عن خلافات هيئة الأركان العامة والحكومة المؤقتة.
وخلال هذه الزيارة تمكن مبعوث هيئة الأركان من فتح خط مباشر بين العقيد هواري بومدين وأحمد بن بلة، نائب رئيس الحكومة المؤقتة آنذاك، كانت خاتمته عقد تحالف للفوز بسباق السلطة على حساب الحكومة المؤقتة، كما هو معروف.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 19/03/2012
مضاف من طرف : aladhimi
صاحب المقال : شهادة "أوليفيي لونغ"
المصدر : الفجر 2012.03.18