الجزائر

الأستاذ الراحل عمر البرناوي الكاريزما الثقافية وغياب سؤال الإبداع



الأستاذ الراحل عمر البرناوي              الكاريزما الثقافية وغياب سؤال الإبداع
يمثل الأستاذ الرّاحل عمر البرناوي (1935 -2009) أحد رجالات الثقافة في الجزائر المستقلة. إنه - بدون أدنى شك - وجه طبع بحضوره المتميز النشاط الثقافي والأدبي لعقود خلت في بلدنا  وهو أيضا، برأينا، من الشخصيات التي تلفت الانتباه بحضورها أكثر مما تلفته بما تنتج من آثار أدبية أو فكرية بحصر المعنى. ربما أسمح لنفسي، بالتالي، أن أسمي هذا الأمر بالكاريزما الثقافية التي تتيح لصاحبها أن يتألق وأن يطبع فضاء الممارسة الثقافية - أينما حل - ببهاء الأناقة: أناقة الحضور وأناقة الكلام والسلوك المتحضّر. لكن الأمر الذي أود أن أتحدث عنه، هنا، هو نتاج عمر البرناوي الأدبي والشّعري منه بخاصة، وأريد أن أتطرق - تحديدا - إلى قيمة هذا النّتاج الذي يحظى بنوع من التكريس البعيد عن معايير الإبداعية الفعلية. وأستبق فأقول قد يختلف معي الكثير في ما أذهب إليه ولكنّني سأعرض لرأيي ولا أُلزم به أحدا غيري. أعتقد، شخصيا، أن أهم ما يؤسّس لقيمة الأستاذ عمر البرناوي هو ما عرضت له، أعني حضوره الشخصي وتألّقه في السّاحة الثقافية بوصفه فاعلا قدّم الكثير على صعيد الإعلام الثقافي وعلى صعيد المسؤولية الإدارية التي استطاع أن يجعل منها أداة لرجّ بركة واقعنا الثقافي الآسنة. لم يكن عمر البرناوي شاعرا كبيرا على عكس ما يروّج له الإعلام الرسمي. وهو لا يشكّل - برأيي - اسما أدبيا أو شعريا مهما في تاريخ الإبداع في الجزائر المستقلة. لقد ظل شاعرا تقليديا وظل أسير المناسبة والظرف ولم تكن تشغله قضايا الإبداع والتشكيل الفني أو قضايا الحداثة وأسئلتها. لقد مر البرناوي على هامش تطور القصيدة العربية الحديثة ولم يكن معاصرا لهواجس الإبداع العربي المعاصر وأسئلته. كأنّه لم يكن مأخوذا بهموم الفن الشعري وخصوصيات اختراقاته وإنجازاته على أصعدة التشكيل والتعبير والرؤية، وإنما ظل مطمئنا إلى زمن القصيدة التقليدية بوصفها وعاء شكليا للرأي أو الموقف الذي يريد التعبير عنه. إن ما صنع أسطورة البرناوي الشاعر، بالتالي، هو الإعلام الرسمي الذي أراد تصديره بوصفه شاعرا وطنيا كبيرا. ولكن للإبداع معايير تتجاوز قدرات التكريس الرسمي مهما بلغ من قوة. أعتقد أن المتأمل الحصيف في ما تركه البرناوي من آثار أدبية يستطيع - دون كبير عناء - أن يقف بنفسه على ما أقوله الآن. إنّني أقدم شهادة للتاريخ لا تستند إلا إلى معايير الإبداع والإضافة والانخراط في فضاءات الأسئلة المرتبطة - ضرورة - بكل مغامرة إبداعية كبرى. يعلّمنا تاريخ الإبداع البشري أن الكتابة لا تنبجس من فراغ وإنّما تقف على أرضية المشكلات الكبرى التي تطرحها الثقافة في محاولة لتجاوز مآزقها الخاصة واحتضان زمنها وإيقاع لحظتها. هذا يعني أن الإبداع الشعري يمثل يقظة عصفور الوعي أمام الأشياء وهي تستقبل فجر المعنى المرتبط بتاريخيتها الخاصة، ما يجعل من الإبداع الشعري تاريخا باطنيا للوعي وتأسيسا لزمن مختلف ينسلخ من الجاهز ومن رماد السائد. الشعر، بهذا المعنى، لغة مغايرة ومناهضة للثقافة بوصفها معتقلا للعالم. بينما عندما نقرأ كتابة البرناوي نشعر أننا إزاء لغة مستنفدة وأمام عالم لا يكفّ عن التشرنق بعيدا عن صيرورات الوعي والتاريخ. كأن لقصيدة البرناوي زمنا آخر فوق الزمن يجعلها مومياء محنّطة خارج كوميديا الوجود والعالم. ولكن هل يعيش الإبداع خارج تراجيديا الوجود وأسئلة العالم والتاريخ والكينونة المعذّبة في توقها الحارق إلى المعنى؟ هذا ما يجعلني أقرّر أن البرناوي لن يخلّد كشاعر في الذّاكرة الأدبية الجزائرية أو العربية. إنّه شاعر كتب بقوة العادة وضمن منظور تقليدي متجاوز كليًّا وفي إطار من الفضاء الضيق الذي تتيحه المناسبة الرسمية بالأخص. هذا يعني أن البرناوي لم يكن معاصرا للحظته التاريخية التي شهدت ميلاد القصيدة الحديثة، ولم يكن معاصرا لأسئلة زمنه الثقافية والإبداعية. إنه - بمعنى آخر - لم يكن شرارة في مجمرة الأسئلة التي طرحها المبدعون والمثقفون النقديون الجزائريون الذين عاصرهم وجايلهم. بل أستطيع أن أقول إنه كان دائم الجهر باستهجانه للتجديد والحداثة ويقول إنه لا يفهم هذه الأمور. يبقى، بالتالي، أن نقرّر أن البرناوي صدر للمستمع والقارئ الجزائري عبر قنوات الإعلام الرسمي وكانت هناك رغبة رسمية في تكريسه لا غير. إن الخلود الأدبي لا تحدّده معايير واعتبارات سياسية وإيديولوجية إلا في البلدان التي تريد احتكار مجال التكريس الثقافي والهيمنة الرمزية على الفضاء السوسيو - سياسي. وأعتقد أنّنا في الجزائر، اليوم، قد تجاوزنا - ولو نسبيا - مرحلة صناعة المثقف الذي يصدر بوصفه واجهة تزيد في رصيد المناعة الإيديولوجية للنظام السائد. لقد ظل هذا الأمر، في السابق، من مشاغل الأحادية الحزبية الباحثة - لا عن الإبداع - بل عن مثقفين عضويين يتغنّون بفراديس غير مرئية إلاّ من قبل حاملي شهادة حسن السلوك. أردت أن أقول من خلال هذا إن الأستاذ الراحل عمر البرناوي لم يمارس الصعلكة الثقافية وإنما بقي مثقفا يفكّر من داخل المؤسسة الرسمية، ولهذا ظل أدبه منخرطا في مجال الثقافة باعتبارها منظومة قيم تحددها السلطة الثقافية والإيديولوجية وتحددها معايير الانتماء إلى تاريخ يعاد إنتاجه بوصفه هوية مقدّسة. لم يكن البرناوي مثقفا ثوريا أو نقديا، ولم يسمح لنفسه بأن يعيد النظر في أي شيء. لقد كان مثقفا يبارك العالم كما ورثه في صيغته السياسية والإيديولوجية. هذا ما يفسّر، ربما، ركون كتاباته الشعرية إلى القول المباشر الذي لا ينفذ إلى جوهر العالم ولا يسافر إليه عبر اختراق القراءات المطروحة عنه ومساءلتها، وإنما يتبنّى قراءات العالم التي تحددها الجهات المأذونة وتصادق عليها عائلة الثقافة المقدّسة. ينتمي أدب الأستاذ البرناوي إلى تقليد أدبي يمكن وصفه - بنوع من التجوّز- بأنه أدب البلاط الرسمي الذي ينشد تقديم الولاء للوطن كما تفهمه السلطة السياسية. لقد أراد أن يقدّم نفسه بوصفه شاعرا وطنيا، ولم يكن همّه أن يقيم في فضاءات الكتابة بوصفها وطنا لازورديا ينفخ في قصب الكلمات أسرار الخلق والمعنى الذي يعتق فينيق الذّات المبدعة من رماد المؤسسة الثقافية. لم يكن الوطن جغرافيا وتاريخا وامتدادا للرّوح والجسد، وإنّما فكرة يصدرها المصنع الإيديولوجي والكتابة الرسمية للتاريخ. هذا ما يجعل من هذا التقليد الأدبي في الجزائر - والذي يمتد من لحظة البرناوي إلى لحظة عز الدين ميهوبي - تقليدا ظرفيا وموجة عابرة على سطح المحيط الإبداعي الجزائري الذي لم يكن رهينة لآلية التكريس الرسمي في المشهد الثقافي. لقد تكرّس هذا التقليد إبّان المرحلة التي هيمن عليها الخطاب الإيديولوجي الأحادي وظل واجهة كرنفالية لا تعنى بأسئلة عصرها قدر عنايتها بجعل التمويه غنائية مبتذلة وثقافة لسحق السؤال والمغامرة خارج الجاهز المكرّس. إن الكتابة الإبداعية غاية في ذاتها وليست جسرا هشّا يقود إلى الارتماء في أحضان الجاهز المؤسّسي. وأعتقد أن كل الأمم التي تحترم نفسها تعرف أن للإبداع قيمة في ذاته بوصفه كشفا وفتحا لأقاليم جديدة تثري رصيد الحساسية الإنسانية وتغني مغامرة الإنسان الباحث دوما عن ألفة مع العالم والأشياء خارج نظام القمع والرقابة؛ وتدرك، أيضا، أن الإبداع ليس تاريخ المباركة وإنما هو تاريخ التجاوز والانعتاق من المعنى الذي تفرضه القوة إلى قوة المعنى المنبثق بفعل الكتابة بوصفها عيدا لا يتوقف عن اقتراف البدايات. ربما ندرك الأسباب العميقة لهذا الأمر إذا عرفنا أن الثقافة العربية في أشكالها السائدة والمكرسة - عبر امتداد العالم العربي - هي ثقافة إيديولوجية / غنائية تعنى بكيفية استضافة العالم كما يصدر ولا تعبأ بخلقه أو تثويره أو تجاوزه. إنها ثقافة لم تدشن، بعد، عهد الكلمة الخالقة وما زالت ذات طابع وظيفي كما لاحظ أدونيس. ربما هذا ما يجعلنا نفهم كيف أن البرناوي - بوصفه ممثلا لما أتينا على ذكره - لم يكن يُعنى بتجديد المراسلات مع العالم من خلال إعادة النظر في اللغة وفي مسبقاته الثقافية والعقلية بقدر ما ظل ينيط بالكتابة وظيفة تتجاوزها وتسبقها: هي قول ما هو جاهز وما يبقي العالم في خدره اللذيذ. هذه الثقافة بكل أشكالها هي النقيض -بالطبع - للثقافة الإبداعية الحديثة القائمة على مغامرة الذهاب بعيدا في الأقاصي التي يتيحها التشكيل اللّغوي بوصفه لعبا مغتبطا بتحطيم إستيطيقا المشافهة والخطابة والتقليد. لم تكن الكلمة أو الكتابة وطنا للبرناوي لأنه جعل من الكلمة أمّة للجاهز السياسي والفكرة المستنفدة. فكيف يمكن للوطن أن يعبأ بكتاب لم تكن الكتابة وطنهم الذي يزيد في رصيد المناعة الحضارية لثقافة شعوبهم وأممهم؟ قد نخسر الكتابة ولا نربح الوطن: هذا هو المأزق المأساوي للكاتب الرسمي الأجير والمنشد باسم الوعي السياسي المكرّس. تظل الكتابة، هنا، ظلا شاحبا لصولجان القهر والعنف المادي والرمزي، ولا تؤسّس لمملكتها الخاصة بوصفها سؤالا وبحثا ووعدا بإنتاج معادل موضوعي للعالم في أفق الكشف المضيء من أجل قول الإنسان والأشياء. ويفلت الوطن، أيضا، من سياج السياسة الرسمية كغيمة لا تقبل إلاّ بأن تكون سريرا مشتركا لأكثر الآمال علوًا وإيغالا في التطلع إلى الأفضل والأجمل. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا كان الكاتب المعرب في الجزائر المستقلة هو الأكثر تورطا في هذا الأمر؟ ما العلاقة بين الثقافة العربية في شكلها السائد والخضوع الطوعي لآلهة السلطة وزبانية الماضوية؟ في هذا، ربما، مكمن المشكلة الكبرى التي تجعل من الفضاء الرمزي الثقافي / العربي معينا لإنتاج وإعادة إنتاج منظومات الإخضاع. إنه فضاء رمزي يعجّ - في عمومه - بالأوثان وبقيم الامتثال والمباركة وليس له من روح بروميثيوس نصيب يذكر. إنه فضاء رمزي يذكر آدم دوما بالدين الذي عليه: الطاعة الأبدية. هذه البنية العامة ظلت العائق الأكبر أمام عمر البرناوي ومحمد الأخضر السائحي - تمثيلا لا حصرا - عن إنتاج نص مختلف أو مناوش أو متمرّد على عكس ما نجد في الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية في تلك الفترة. ولكنني أستدرك، هنا، لأشير إلى أن حكمي هذا لا يتناول شخص البرناوي ولا اللغة العربية وإنما يتناول - من وجهة نقدية / ثقافية - مناخا ثقافيا وذهنيا ظل شبه مهيمن على الأنتلجنسيا المعرّبة التي نشأت في ظل الثقافة التقليدية ولم يتح لها أن تقطع - إبستيمولوجيًا - مع الوعي الماضوي / التقديسي ولا أن تُحدث اختراقاتها لسياج السائد. أردت أن أقول كل ذلك كي تكون كلمتي عن الأستاذ الرّحل عمر البرناوي شهادة للتاريخ ومدخلا إلى قراءة ظاهرة المثقف التقليدي والرسمي في الجزائر المعاصرة، مشيرا إلى أن البرناوي الشاعر أخطأ الطريق إلى الإبداع لأنه لم يدرك أن جوهر الإبداع يكمن في الانحياز إلى صواعق البدعة التي تخلخل أركان ملكوت السنّة في التشكيل والرؤية جميعا. لقد ظل الشعر العربي تاريخيا - في ذرواته العليا التي صنعت مجدنا الأدبي - شيئا يربك نظام الحساسية السائدة وينتج المختلف ويحقق بهجة المجيء من عوالم البكارة. لم يكن البرناوي وريثا لهذا رغم تعلّقه بالهوية الثقافية العربية - الإسلامية في شكلها الرسمي السائد. هذا، ربما، ما يفتح باب النقاش على مصراعيه حول المثقف المعرّب في الجزائر المستقلة، وحول الضمير الذي مثله بوصفه وعيا محافظا لم يستطع اختراق الأبوّة الرمزية للمناخ الثقافي التقليدي ولم يكن له حظ في مناهضة السلطة أو تحقيق الاستقلال النسبي عنها. لم يكن البرناوي سؤالا أنتجته الثقافة الجزائرية أو كلمة عذراء وإنّما إنسانا كبيرا غطى حضوره الأنيق على فقره الإبداعي. إنه - كما قلت - عاش على هامش الزمن الإبداعي العربي ولم يُقدّر له، بالتالي، أن ينخرط في فضاء الأسئلة الجديدة المرتبطة بالإبداع وتجديد العقل والنظر. لقد ظل البرناوي منتصبا كتمثال ملح في مفازة الإبداع العربي التي عرفت عبور أجيال من نوارس البحر إلى نداءات الجزر القصية، وظل يمارس مهنة حراسة القلاع المتآكلة التي خرجت من شقوقها أعشاب برية عانقت الشمس والهواء. أعتقد أن هذا هو المكر الذي يمارسه التاريخ * بلا هوادة - مع المثقفين الرسميين: إن فراديس المؤسّسة الرسمية وتشريفاتها هي الطريق الملكي إلى جبانة التاريخ وإلى نهر النسيان في عوالمه السفلية. بقلم: أحمد دلباني


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)