على مرمى حجر من ضريح سيدي عبد الرحمان رمز من رموز العاصمة، احتشد المئات لتوديع رمز آخر بنى أسطورته في حي الرونفالي، الحي الشعبي العتيق، وبين جدران عمارة لو تكلمت سلالمها المهترئة لقصت علينا بأنغام الأوتار حكاية ذلك الطفل اليتيم الذي ارتمى في أحضان الحي العتيق قادما من منطقة القبائل، ليخرج منها دون عودة، أسطورة سحرت قلوب الملايين.كانت الأجواء استثنائية بحي الرونفالي الذي ارتبط اسمه باسم الشيخ اعمر الزاهي، 4 سيارات شرطة مركونة من كل الجهات ومنبهاتها الضوئية مشتعلة، أعوان أمن ينظمون سير حركة مركبات كان كل أصحابها يبحثون عن مكان لركنها والالتحاق بالقرب من العمارة، أين احتشد العشرات آملين في إلقاء النظرة الأخيرة على آخر عنقود مشايخ الأغنية الشعبية. أما في الرصيف المقابل فحدث ولا حرج، وجوه شاحبة شاردة لعشاق الشيخ أبوا إلا أن يكونوا حاضرين لتوديع من "دبدبهم" كما يحلو لهم وصف ما يبعث فيهم من أحاسيس فن الراحل.أمام هذا الحشد اضطر جيران الأسطورة ومن تكفلوا برعايته طيلة سنين لتوقيف دخول المعزين لإلقاء النظرة الأخيرة، فصرخ أحدهم "السلالم مهددة بالانهيار ولا تستطيع تحمل عددكم الهائل". ولحظات قبل وصولنا، كان رجل الأعمال ورئيس منتدى رؤساء المؤسسات علي حداد من بين المعزين الذين تمكنوا من دخول البيت العتيق والترحم على فقيد الفن الأصيل. مآثر الفقيد في انتظار الوقت السانحمع مرور الوقت ازداد عدد المودّعين، حتى تعالت الحناجر وتقرر غلق بيت العمارة ورفض دخول أي كان، فانقسم الحشد الهائل إلى مجموعات صغيرة، الكل يروي سيرة المرحوم، من إبداعاته إلى حفلاته الخالدة، ولا أحد يبعد عينيه عن الباب، لعلّ وعسى. كل من تعامل مع الشيخ سجل حضوره من "صناعجية" إلى بعض أسماء الأغنية الشعبية الذين حضروا لتوديع "الأستاذ".هنا التقت كل القصص في الإشادة بمآثر الفقيد، تواضعه وزهده، قال أحد المقربين "يستحيل عد الأعراس التي لم يتقاض فيها الشيخ مقابلا، وكان الشيخ الوحيد الذي يسدد أجرة أعضاء الفرقة الموسيقية حتى قبل إحياء الحفل، وكان الوحيد الذي يدفع لهم أجرة محترمة جدا".وروى آخر كيف كانت تصطف السيارات في الحي ليقتفي أصحابها آثار الشيخ صوب المكان الذي كان يحيي فيه حفلة، وقال أحد المقربين إنه قال له يوما إنه لا يحب ذلك خوفا من وقوع حوادث مرور بسبب كثرة السيارات التي كانت تصطف وكان يصل عددها أحيانا إلى 30 سيارة.ولخص أحد الحاضرين حياة اعمر الزاهي في عبارة "الفنان يبحث عن ثلاثة أشياء: الشهرة والمال أو محبة الناس، واعمر الزاهي طيلة مسيرته بحث فقط عن محبة الناس"، واسترسل "لو بحث الشيخ عن المال لكان أكثر ثراء من علي حداد الذي كان حاضرا هنا منذ قليل". وتواصلت القصص في إثراء الدردشات، فقصّ آخر من أبناء الحي وعشاق المرحوم "توسطت يوما لعريس للحصول على تخفيض لإحياء عرس، وكان الشيخ جالسا على الكرسي فنهض واتكأ على الجدار، وقال: خلاص العرس من عندي خلص برك الجماعة".وفي تلك الأثناء تعالت الأصوات مرة أخرى أمام باب العمارة، واستثناءً فُتحت لعشاق قدموا من عنابة فور سماعهم بوفاة الشيخ لإلقاء النظرة عليه وحضور الجنازة، ووقع شبه إجماع بين "المتربصين" بمدخل البيت للسماح لهم بالدخول دون غيرهم بسبب المسافة الطويلة التي قطعوها. هل مات الشعبي؟هو سؤال كان بالنسبة للكثيرين على أرصفة "الرونفالي" لا يحتاج حتى أن يطرح. فبالنسبة لهم هم يودّعون اليوم محبوبهم وفنهم، فاعمر الزاهي آخر العمالقة الذي كتبوا أسماءهم بحروف من ذهب، بالنسبة لهم الأغنية الشعبية ماتت اليوم مع آخر مشايخها، فلا أحد من الهواة استطاع أن يرسم له طريقا مماثلا ولو قليلا للطريق الذي انتهجه وسار عليه ومات فيه اعمر الزاهي، وهو عكس أغلب المشايخ سلك طريق الزهد والقناعة والهروب من الأضواء، فمن ذا الذي يستطيع أن يحمل هذا المشعل الثقيل؟ من يستطيع أن يتخلى عن المال والشهرة ويكتفي بحب الناس؟ الفراقمرت الساعات، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر والنصف حين قدمت شاحنة صهريج وأعوان "نات كوم" الذين شرعوا في تنظيف الحي بخرطوم المياه، وبعد منتصف الليل بدأ عدد الحضور يتراجع، ليخرج جيران اعمر الزاهي ويعلموا من أصر على البقاء على تنظيم أنفسهم والصعود في أفواج صغيرة، حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه في السلالم. وبعد انتظار يسير استطعنا ولوج العمارة، وفعلا كانت السلالم تهتز تحت الخطوات، وفي الطابق الأخير يوجد بيت صغير متواضع قضى فيه الشيخ عمره، عُرض فيه جثمانه في غرفته الصغيرة التي لا تتعدى مساحتها 8 أمتار مربعة، وهو أسمى دليل على تواضع فنان كان سهلا بالنسبة له أن يكون له قصر من قصور حيدرة، لكنه اختار البقاء في هذا البيت وسط ناسه وجيرانه.. وداعا يا "شيخ البلاد".
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 02/12/2016
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : فاروق غدير
المصدر : www.elkhabar.com