ويبدو أن النمو التجاري، الذي شهدته، مدينة تلمسان في العهد الزياني، شجع العديد من الفقهاء، والعلماء، والطلبة في المدينة على الاشتغال بحرفة التجارة، فضلا عن نشاطهم العلمي والفكري، في محلاتهم ودكاكينهم بأسواق المدينة ولاسيما في القيصارية(62). والمحلات المحادية للمسجد الجامع، التي صارت في نفس الوقت مجمعا للعلماء (63).
لم يكن التاج التلمساني، يتاجر لنفسه فقط، وإنما كان ينوب عن التجار الآخرين، في استثمار ما يملكون من أموال في هذه الحركة، مثل الشيخ العالم الفقيه، أبي إسحاق إبراهيم بن يخلف التنسي (ت680-1280)، الذي كلف المؤرخ أبا العباس بن القطان باستثمار بعض أمواله في التجارة(64) قراضا، وكان أبو عبد الله محمد بن مرزق، قد أعان ابن القطان، الذي كان يشتغل بالخياطة، ببعض المال وشجعه على التجارة، والسفر من أجله، فاتخذ طريق فاس وسبتة، فباع واشترى بهما، ثم عاد بأحمال البز والمتاع السبتي إلى مدينة تلمسان، ثم توجه إلى مدينة بجاية لذات الغرض، حتى وسع الله عليه وكثر ماله فاشترى به حانوتا بالقيصارية ودارا بتلمسان واستقر بها(65).
وكان بنو مرزوق، يحترفون العلم والتجارة، في دكاكين لهم بالقيصرية ودرب مرسى الطلبة (66) بتلمسان، وفلاحة الأرض بالعباد (67). وكان لهم عدد من المنازل والدور والخدم الخاصين بهم (68). وكان الشيخ أبو علي حسين بن الجلاب، قد ذهب ماله الكثير الذي تركه له والده، وكان هذا الأخير يتاجر بجلب الغنم، ولهذا سمي بالجلاب(69)، فاشتكى لابن مرزوق من ضيق حاله فأعطاه مالا وحثه على إتباع سبيل والده، في التسبب بالمواشي، فما مر عليه حول حتى أصبح من المشهورين، باتساع المال في مدينة تلمسان (70).
وكان بعض الفقهاء يحترفون الحراثة وتربية المواشي (71)، والخراطة وخياطة الملابس (72) ونسخ المصاحف، والكتب وبيعها، في سوقي الملابس والكتب (73) وكان أغلب حجاج مدينة تلمسان، يشتغلون بالتجارة خلال سفرهم إلى البقاع المقدسة وأثناء عودتهم (74)، وقد أدلى حسن الوزان بشهادة إيجابية عن أخلاق ومهنة التجار التلمسانيون ومعاملاتهم النزيهة مع الناس، حيث يقول: "فالتجار أناس منصفون، مخلصون جدا، أمناء في تجارتهم يحرصون على أن تكون مدينتهم مزودة بالمؤن على أحسن وجه، أهم أسفارهم التجارية، وهو الذي يقومون به إلى بلاد السودان، وهم وافروا الغنى أملاكا ونقودا"(75).
وكانت- فيما يبدو- بعض الظواهر السلبية، منتشرة بين بعض التجار، مثل ظاهرة التهرب من الجباية الجمركية، باتخاذ موضع العباد، مكان لإخفاء البضائع وتخزينها، حتى يتمكنوا من إدخالها إلى مدينة تلمسان، خفية بعيدا عن عيون الرصد، هروبا من دفع الضرائب في الأبواب(76).
ولعل هذا السبب هو الذي جعل السلطان أبا تاشفين الأول يغضب، ويقوم بإرسال أحد أعوانه هو يحي بن إبراهيم علي العطار، للتحقيق من ذلك، فجاء هذا الأخير، وهدد بضرب الموضع وتخريب روضة أبي مدين الغوث، لكن أبا العباس أحمد ابن مرزوق، تصدى له وأثنى عزمه، فانصرف بعد طول نزاع(77). ولاحظ الرحالة عبد الباسط المصري، تهرب التجار من الضرائب عند باب مدينة تلمسان بقوله: "جرت هناك أن من خاف على نفسه من التعشير، وزع ما معه، لمن يدخل البلد، من أهلها أو أعطاء له ليدخل له به فانه لا يفتش، سواء عرفه صاحب المتاع أم لم يعرفه"(78) ويبدو أن بني زيان وضعوا بعض الإجراءات الجمركية، التي تقلص ظاهرة، من التهرب من الضرائب، فجعلوا على أبواب المدينة، عمالا من أهل الذمة (يهود ونصارى) يحيطون بالتاجر ويقومون بتفتيشه من قدميه إلى رأسه، بحثا عن السلع، الخاضعة للضريبة والتي يمكن إخفاؤها، وحتى النساء أوكل بهن اليهوديات، يفتشنهن ظاهرا وباطنا مبالغة وتشديدا في الرقابة "كن يدخلن أيديهن إلى لحومهن"، وهي عملية انفرد بها جباة مدينة تلمسان عن غيرها، حسب ما ذهب إليه ابن مرزوق (79).
وكانت المغارم، تؤخذ عن الخشب، والبيض، والدجاج، والتين، وسائر المرافق، التي يحتاج إليها الميسور، والفقير، بل حتى ماء السقي كان يخضع للضريبة (80).
وهناك صنف آخر، من سكان مدينة تلمسان، ارتبطوا أشد الارتباط بالأنشطة التجارية، إلا أنهم لم يرتقوا إلى صنف التجار وفئتهم، بل كانوا أقل منهم مرتبة، ومكانة اجتماعية ومادية، بالرغم من أعمالهم الشاقة في الأسواق والورشات الصناعية، كالحمالين والدلالين(81) والبراحين الجلاسين، ومرافقي القوافل التجارية، والمكلفين بحراستها، ويعد هؤلاء جميعا من أفقر العاملين في القطاع التجاري. وقد عرفتهم المصادر بالسوقة و"باعة الطرق" (82) و"الرعاع"(83) و"أوباش السوق"(84)، ووصفتهم كتب الحسبة، بشتى النعوت، وذكرت بأن أصنافهم، اتسعت مع مرور الزمن، بسبب النمو الديموغرافي والهجرة المستمرة للمدن(85).
تاريخ الإضافة : 27/10/2010
مضاف من طرف : tlemcenislam
المصدر : www.almasalik.com