الجزائر


إيزابيل
تتنوع الوسائل التي يستمدُ منها فن الرواية تفرده في تحويل الأفكار والمُعتقدات السائدة إلى ثيمات أساسية في بنيته، كما ساهم النص الروائي في إعادة الطرح المواد الأُسطورية في قوالب جديدة، وغالبا مايكون الطابع البوليسي هو سمة غالبة في الروايات التي تتكيء على الرموز الأسطورية لشد القارىء إلى مُتابعة تلك الحلقات التي تتوالد بإمتداد مساحة العمل الروائي، إذ ما أن تنحل عقدة حتى تأتي مكانها عقدة أخرى، وبذلك تسترسلُ الوحداتُ مُتتالية ويندمجُ المُتلقي في تضاريس الرواية لاسيما إذا كان عُنصر اللغة إمتازبالشفافية مُتفادياً وقوع في شرك التعقر والغموض الفارغ، يسلك الكاتبُ الإيطالي أنطونيكى تابوكي في روايته (إزابيل) الصادرة من دار الساقي 2016 مساراً مميزاً إذ تتداخلُ الثميات البوليسية والاسطورية ناهيك عن تمرير النتف التأريخية عن حقبة حكم الديكتاتور سالازار في تضاعيف عمله، يتلقى القارىء من العنوان إشارات تعينهُ على ما تتمركز حوله الرواية، إذ تتلخصُ الموضوعة الرئيسية في البحث عن مصير شخصية حملت الرواية إسمها (إزابيل) التي يُعد إختفائها في ظروف مُلتبسة محركاً إساسياً في تعاقب الأحداث، ويستمرُ غيابها فعليا حتى الفصل الأخير قبل الوصول إلى النهاية كلُ ما تقرأهُ عبارةً عن روايات الأخرين حول شخصية إزابيل المعروفة في المنظمة السرية بماغدا، وهي نشأت من أسرة إقطاعية ذات تقاليد أُرستوقراطية غير أنَّ ذلك لايمنعها من الإنتماء إلى مجموعة ثورية، ونشر مقالات في الصحف ضد النظام الديكتاتوري كما نظمت لقاءات شعرية، وتلك الفعاليات تبدأُ عقب موت والديها بحادثة السير.من هنا تنفحُ حياة البطلة على مرحلة مختلفة. سِرُ الإختفاء يكتسبُ عاملُ الشخصية في هذا العملُ موقعاً محورياً بل هو قوام أساسي في ترتيب مكونات السرد الأُخرى، إذ أوكل المؤلف بدور إسنادى للشخصيات التي تتمثلُ مهمتها في تحديد صورة إزابيل وإبانة مصيرها، وفي ذلك يتبنى الكاتبُ تقنية تعدد الرواة، عوضاً من إنفراد راوِ واحد بسرد حكاية إزابيل تتشارك مجموعة من الشخصيات ذات خلفيات وإهتمامات مُختلفة في الإدلاء برإيها عن هذه الشخصية المُتعددة الإبعاد فهى تقامُ حفلات موسيقية مُنكهة بطعم البُرجوازية من جهة وتَنضمُ إلى الحزب الشيوعي من جهة أخرى، مونيكا هي صديقة إزابيل تروي جانباً من شخصيتها منذ أن كانت الأخيرة طالبة في معهد إسكرافاز دوأمور ديفينو ومن ثُمَّ تُشير إلى مكانة إزابيل بين أقرانها فهي درست في الثانوية الفرنسية مأوى الأفكار المعارضة للفاشية طبعاً هذا الملمح من حياة إيزابيل له دور في تماسك وحدة الرواية كما يعللُ رغبة الشخصية الأساسية في إنضمام إلى التيار اليساري المُعادي لديكتاتورية سالازار، ومن ثُمَّ ينتقلُ خيط السرد إلى شخصية الجدة بريجيدا تيسيرا فهى بدورها أيضاً تقدم صورة عن طفولة إزابيل ومعاناتها مع مرض (الربو) وغياب والديها فالبتالي هي تكفلت بها لإشتغال الوالد بالتجارة كما الأمُ منكبةً في مهمات دينية في الأبرشية، هكذا تتالت الروايات عن إزابيل هنا ما يجدر بالذكر أن المروي له في كل فصول الرواية له موقع داخل المنظومة السردية ماعدا الفصل الأول، فضلاً عن ذلك تنقلُ بعض الشخصيات شهادة غيرها عن إزابيل وإزدياد نشاطاتها في صفوف التنظيم السري ناهيك عن إيراد أخبار صحفية في سياق الحديث عن موت البطلة منتحرة داخل السجن، لاتنتهي القصة عند الجدة كما تترك مونيكا مكانها لراو أخر وتتبدل البيئة وتستمرُ رحلة التقصي وراء أثر إزابيل. الثورة بالموسيقى تتعاقبُ حلقات الرواية وتتعقدُ الحبكة الدرامية عندما يلتقي إيزلوفاكي بالمغنية والعازفة تيكس فالأخيرة أمريكية شجعتها إيزايبل على الإهتمام بموهبتها الموسيقية وعزف موسيقى الجاز في زمن كان النظام في البرتغال يروج لموسيقى الفادو الحزينة، وفي ذلك إشارة إلى أن الأنظمة الفاشية تدجنُ مشاعر الإنسان وتستغل الموسيقى لتكريس حالة من الكآبة لدى مواطنيها، تقتنع تيكس بما نشرت على صفحات الجرائد عن إنتحار إزابيل فيما يُباغتها إيزلوفاكي بعدم عثوره على شهادة الوفاة لإيزابيل بعدما نبش سجل الوفيات في البلدية، وبذلك نكون أمام مفصل جديد للرواية، إذ لايخلو الأمر من الغموض خصوصا عندما يتذكرُ المتلقي حضور مونيكا في قداس لموت صديقتها إزابيل مايُضفي مزيدا من التشويق إلى السرد هو رواية حارس سجن كاشييس آلميدا فالأخير يعتبرُ نفسه مساهماً في النضال ضد الديكتاتورية كونه مُساعدا للثوار المُعتقلين كما يعترفُ بما كان يجنيه من مردود مادي عن مُساعدته للمسجونين، ويكشفُ السجانُ عن تحايله على السلطات لإخراج إيزابيل من السجن وذلك عندما تنتحر إحدى سجينات ترافق إيزابيل المُنتحرة مدعية أنها أُختها وهذا يكون بالتنسيق مع آلميدا، وبذلك ينسحبُ السجان من متن الحكاية ويتسلسلُ السردُ إلى أن يظهرَ تياغو المُصور فينزلُ إيزلوفاكي إلى معتكفه ليحصل على صورة لإيزابيل، كما يخبره تياغو عن سفر مجهولة المصير إلى ماكاو دون أن يتلقى أي تأكيد عن بقاء إزابيل على قيد الحياة ومن ثُمَّ ينحى العملُ منحى فنتازياً بدخول إيزلوفاكي إلى مغارة وتحاوره مع الحشرات مرة أخرى يؤكد له صوت مجهول عن إنتحار غيزابيل وهي شربت قارورتين من الحبوب، بعد المرور بحلقة الشاعر يصلُ الراوي المتبني لضمير المُتكلم إلى جبال الألب هنا يتعرف على ليز فالأخيرة من جانبها تشرع بسرد قصتها وألمها المبرح حين أخذت منها الحياة إبنها ومحاولاتها في حقل الفيزياء لإدراك سبب وجود حياة مُنتظمة على كوكب الأرض فعلاً هي تُقْنعك بحديثها حول المجرات والكوسمولوجيا عن إلمامها بالشؤون العلمية، كما لديها معرفة بالثقافة الهندية وطقوساتها العجائبية، وما ورد في نصوصها الموروثة عن ضرورة إهتداء الإنسان بلغة الترميز للخروج من حالة الضياع، زيادة على ذلك تؤكد لإيزالوفاكي عن أهمية عملية البحث بحد ذاتها دون إنتظار النتيجة، وما تتوصل إليه من هذه المحادثة هو أن العلم لايُعوضُ عن الميثولوجيا الشعبية أياً كانت درجة مصداقيتها، لأن الإنسان لايعيشُ بالحقيقة على حد تعبير نيتشة.في نهاية الرواية تختفي الحدود بين عالم الأموات وعالم الأحياء، وذلك يتمثل في لقاء إيزلوفاكي بالقديس شافييز الذي شاع الخبر بأنه ضاع في الهند كما تستحضر إيزابيل وتعودُ من العدم وذلك بعدما يضع صاحب الكمان صورة الأخيرة في مركز الدائرة ويعزف سوناتا الوادع لبيتهوفن، إذ تخبر إيزابيل الراوي عن رقود جثتها في أحد المقابر بينما روحها مُنطلقة وفي ذلك تلميح إلى ثنائية الروح والجسد.وبذلك تُقفل الحلقة تتناسلُ الحكايات الشيقة ضمن هذا العمل غير أن مايظل في المركز هو قصة إيزابيل.التي من خلالها يتعرف المتلقي على جزء من تاريخ البرتغال في عهد سالازار.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)