أصبح النهوض الجاد بالمدرسة في بلادنا أمرا حتميا ومستعجلا استعجال السلطات بإيجاد البديل عن البترول والغاز في الاقتصاد الوطني. وهذا نظرا للوضع المزري الذي تفاقم سنة بعد سنة خلال ال 25 سنة الماضية. ونحن هنا لا نتّهم المسؤولين بعدم محاولة تدارك الوضع وإيجاد العلاج، لكننا نُعيب عليهم بقوة كونهم كانوا خلال تلك الحقبة، ولا يزالون، يضحكون على الذقون عندما يدّعون في نهاية كل سنة بأن أداء المدرسة تحسن مبرهنين على هذا التحسن بتزايد عدد الناجحين في البكالوريا! والكل يعلم ما هي البكالوريا، وكيف كانت، وكيف أصبحت!
الوضع الراهن
وكان أحرى بمسؤولي التربية أن يعتذروا للمواطن على فشلهم الصارخ في أداء مهامهم، وعلى عدم التوفيق في إيجاد خطة علمية وتربوية ناجعة بعيدة عن التطبيل السياسي.
ونحن نقرّ بصعوبة بلوغ المبتغى، ولا ندعي أبدا أن لنا دراية أفضل بالموضوع التربوي أو أن هناك خطة جاهزة للتنفيذ، غير أن ما لا يمكن أن يتجاهله الخاص والعام هو أن المنظومة التربوية قد عبث بها من عبث من المسؤولين بدون رقيب ولا حسيب. وأحد أسباب فشل المشاريع التربوية يتمثل في كونها تُعَدّ في الخفاء بعيدا عن أعين وسائل الإعلام والمهتمين، وتَحتكم خلال تحضيرها ل"السياسي" دون سبر للآراء (آراء المعلم والتلميذ وولي أمره والخبير في الداخل والخارج) ودون مراعاتها عند رسم المخططات. فطلب رأي هؤلاء من شأنه -حتى لو تضاربت أوجه النظر- إثراء المشاريع، وفي الثراء زيادة في حظوظ نجاح تنفيذها.
وفي اعتقادنا أن أكبر عائق لإصلاح المنظومة التربوية هو غياب مشروع واضح المعالم وإستراتيجية بعيدة المدى حيث يفضل مسؤولونا ربط هذا الإصلاح ومراحل إنجازه بأجندات سياسية. وعلى كل حال فالوضع الراهن للمنظومة يتطلب في البداية إحصائيات وبيانات دقيقة تراعي كل العوامل المتداخلة في الشأن التربوي، أبرزها تلك التي تخص :1) سلك المدرسين (تخصصاتهم، خصوصياتهم، مستوياتهم، عددهم، أقدمياتهم، الطرق التي وُظفوا بها...). 2) التلاميذ (عددهم، أعمارهم، بيئاتهم، مواطن ضعفهم، مهاراتهم، عوائقهم، أخلاقياتهم،...). 3) سلك الإداريين ووضعيات المؤسسات المدرسية (الأداء، سِعات المؤسسات، إمكانيات المنتسبين إليها،...).
وما وقع خلال السنين الأخيرة هو أن وزارة التربية اضطرت إلى توظيف عشرات الآلاف من خريجي الجامعات لتولي التدريس في المؤسسات التعليمية دون سابق تكوين جاد يؤهل هؤلاء للوقوف أمام التلاميذ وأداء مهامهم كمربين ومعلمين وأساتذة. ولا شك أن الكثير منهم دخل مجال التعليم ليس حبًا فيه بل اضطرارا نتيجة قلة إمكانيات التوظيف في البلاد.
ونظرا للعدد الهائل لهؤلاء الموظفين في سلك التعليم فلا بد لهم من عناية خاصة لمدة سنوات طوال أثناء الخدمة. ونقصد بالعناية الخاصة وضع مخطط دقيق للتكوين المستمر. كما أن بعض المؤشرات تقول إن وزارة التربية تنتظر خلال القادم من السنوات عددا أكبر من التلاميذ. ومن ثمّ، لا بد لها من ترك باب التوظيف مفتوحا على مدى سنوات. وهذا التكوين يتطلب موارد بشرية وهياكل وترتيبات محكمة ليستفيد منها جميع المعنيين ويؤتي هذا التكوين بثماره على مدى السنين..
والجدير بالتنبيه أن بعض البلدان -التي لا تعاني إلا بقسط قليل مما تعاني منه مدرستنا- تخصص مائة ساعة سنويا لتكوين المدرسين أثناء الخدمة. فلماذا لا نتخذ هذه المدة كمرجع وكهدف قابل للتحقيق عندنا؟ وهذه الساعات يمكن أن تُوزَّع بالشكل المناسب خلال السنة الدراسية (مثلا، نصف يوم أسبوعيا، لكن هذا ليس الخيار الوحيد). نعتقد أن وزارة التربية قادرة على رفع هذا التحدي وأن ترتب أمورها لكي تحقق هذا الهدف الذي بدونه ستظل المدرسة تحت ضغط الرداءة المتزايدة بسبب نقص مؤهلات كمّ كبير من المدرسين على المستويين البيداغوجي والعلمي البحت.
الهياكل والمكونون
تتطلب عملية التكوين هياكل لا نراها سوى في إعادة تأهيل ما سمي في السابق ب"المعاهد التكنولوجية للتربية". وما المانع أن ترسم وزارة التربية خطة لفتح مائة معهد من هذا القبيل على مدى متوسط عبر القطر بمعدل معهد أو اثنين أو ثلاثة في كل ولاية حسب مساحة الولايات وتعداد مؤسساتها التربوية؟ بمقدور الوزارة الشروع في أقرب الآجال باستغلال مؤسسات موجودة أو أجنحة منها لهذا التكوين المكثف والممتد عبر الزمن.
كما تستطيع الوزارة تكييف هذا التكوين ليتم في المؤسسات التي ينتسب إليها المدرسون في شكل ندوات محكمة التنظيم، ولا تكون ذات طابع شكلي يبرر بها المفتش أو المسؤول نشاطه. والأنسب في نظرنا أن يُعَدَّ الجزء الأكبر من البرامج السنوية للندوات وحصص تكوين المكونين على مستوى مركزي بالوزارة.
ومن بين ما ينبغي أن تشمله محتويات الندوات، إلقاء الدروس الواردة في كافة المناهج، ويستحسن أن يكون ذلك في مجموعات صغيرة، وتوزيعها مثلا حسب السنوات الدراسية. وفي هذا السياق، بلغنا أن الكثير من الذين توظفوا حديثا في حاجة ماسة إلى استيعاب المضمون العلمي للدروس التي سيلقونها أمام تلاميذ، وكذا إلى التمرّن على تقديمها قبل التوسع في المجال العلمي والتربوي.
والمعاهد التكنولوجية التي نقصدها لا تتطلب (على الأقل في البداية) توظيف عدد كبير من المكونين. فالجزائر الآن لها عبر الوطن العديد من المتقاعدين الذين لهم من الخبرة الميدانية ما يلبي حاجة الجيل الجديد من سلك الأساتذة والمعلمين. وهذا فضلا عن دور المفتشين المنتشرين في مختلف مناطق البلاد. وإلى جانب ذلك فإن خريجي المدارس العليا للأساتذة لهم كفاءة يشهد بها المفتشون في المجالين البيداغوجي والعلمي البحت. وعليه يمكن أيضا الاستعانة بهم في كل المؤسسات وتكليفهم بمهام محدَّدة في إطار المهام الواقعة على كاهل المعاهد التكنولوجية.
وحتى يكون تكوين في المدارس العليا للأساتذة متميزا ويستطيع خريجوها أداء مهمة مزدوجة على المستوى المحلي (التكوين الجيد للتلميذ والإسهام في تكوين المكونين) لا بد أن يُعاد النظر في مناهجها الحالية. ومن جهة أخرى، فالنوعية تتطلب تقليص عدد المنتسبين إلى هذه المدارس وتكييف العدد مع متطلبات التكوين الجيد.
فليس من المعقول مثلا أن يكون ذاك هو هدفنا والأقسام في المدارس العليا تستنجد بمن هبّ ودبّ من أجل تقديم ساعات إضافية لطلابها بسبب نقص التأطير ! كما أن التمييز بين هذه المدارس بات أمرا ضروريا، وذلك بجعل البعض منها مدارس وطنية يوكل إليها تكوين فئة المبرَّزين من الأساتذة فضلا عن التكوين الأساسي بعدد محدود من الطلبة (من السنة الأولى إلى الخامسة).
يتطلب التكوين المستمر للمدرسين جهودا كبيرة وطويلة النفس. كما يستدعي الاستعانة بالتكنولوجيات الحديثة في مجال التربية، مثل تكليف الممتازين من الأساتذة والمعلمين بتسجيل دروسهم (صوتا وصورة) ووضعها بالمجان في متناول الموظفين الجدد لاستيعابها واتخاذها كنماذج في أداء مهامهم. لكن هذا التكوين لا ينحصر فقط في هذه العملية، فهي حلقة من حلقات عديدة نتمنى أن يحددها الخبراء بدقة وتعمل بها الوزارة في أقرب الآجال إنقاذا لمدرستنا.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 08/03/2018
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : أبو بكر خالد سعد الله
المصدر : www.horizons-dz.com