فيلم "الأيدي الحرة"، من إخراج الإيطالي إنيو لورينزيني سنة 1964، يحتل مكانة فريدة في تاريخ السينما الجزائرية. هذا الفيلم، الذي يُعد أول إنتاج دولي لشركة قصبة فيلم، تم إنجازه بعد عامين فقط من استقلال الجزائر، ويشكل شهادة سياسية وجمالية على تحديات ما بعد الاستعمار وتطلعات الجمهورية الفتية. رغم نسيانه لعقود، يُعاد اليوم إلى الواجهة بفضل عملية ترميم قادها المعهد الفرنسي وسينيتكا بولونيا.
السياق التاريخي والجمالي
تم تصوير فيلم "الأيدي الحرة" في ظل أجواء التحرر الوطني، وهو ينتمي إلى موجة السينما النضالية في ستينيات القرن الماضي. يجمع العمل بين الطابع الإثنوغرافي والأسلوب الواقعي الجديد، حيث يمزج بين لقطات أرشيفية نادرة، صور فوتوغرافية، مقالات صحفية، ومشاهد خيالية. يعكس هذا الأسلوب السردي والبصري تعقيدات حرب الاستقلال والسنوات التي تلتها، متناولًا موضوعات عالمية مثل الاستعمار وآثاره.
مالكة ليشور، الباحثة المختصة في السينما الجزائرية، تبرز أهمية السياق الذي ظهر فيه هذا الفيلم. من خلال الحوارات والمشاهد الواقعية والأرشيف، يكشف المخرج عن الجراح التي خلفها الاستعمار ويطرح تساؤلات حول إعادة بناء الهوية والاقتصاد في الجزائر المستقلة. كان الفيلم يحمل في الأصل عنوان الجزائريون، لكن بناءً على نصيحة المنتج ياسف سعدي، تغيّر العنوان إلى جذع التين، وهو مصطلح مثير للجدل ومرتبط بإهانة استعمارية.
عملية الترميم
ظل فيلم "الأيدي الحرة" يعتبر مفقودًا لعدة عقود، خاصة بعد الاضطرابات السياسية التي شهدتها الجزائر عام 1965. تم العثور على نسخة 35 ملم في أرشيفات ذاكرة العمال الشعبية السمعية البصرية (AAMOD) بفضل جهود الفنانة زينب سديرة أثناء إعدادها لمشروع الأحلام بلا عنوان المخصص لبينالي البندقية. جاءت عملية الترميم بالتعاون بين المعهد الفرنسي وسينيتكا بولونيا، مما يمثل خطوة هامة لإحياء التراث السينمائي الجزائري.
عمل متعدد الأبعاد
يمتاز الفيلم بمزجه بين الواقعية الجريئة والجمالية السينمائية المتقنة المستوحاة من الواقعية الجديدة الإيطالية. استخدم لورينزيني ممثلين غير محترفين وصوّر في مواقع حقيقية، ما أضفى مصداقية كبيرة على تصوير الجزائر بعد الاستقلال. هذا الجانب الوثائقي يضفي على الفيلم قيمة أرشيفية استثنائية، حيث يقدم لمحات نادرة عن جرائم المنظمة السرية المسلحة (OAS)، وظروف العيش في الجزائر المستقلة، والسنوات الأولى من بناء دولة ذات سيادة.
في مقدمته، يستعرض الفيلم الإرث العريق والتاريخ الثري للجزائر، متحديًا الصور النمطية العنصرية التي روّج لها الاستعمار، والتي صورت الجزائريين كأدنى منزلة. من خلال أسئلة مثل "أين الهمجية؟ وأين الحضارة؟"، يتحدى الفيلم الأسس الأيديولوجية للاستعمار.
استقبال معقد
عند صدوره، لم يحظَ فيلم "الأيدي الحرة" بمسيرة تجارية ناجحة. قد تكون الانتقادات حينها ركزت على تصويره لبؤس الجزائريين بدلاً من الانتصارات البطولية للثورة. هذه الجدالات، إن وُجدت، قد تعكس توترات حول كيفية تصوير الجزائر المستقلة وربما تفسر جزئيًا سبب نسيانه. لكن لا توجد معلومات موثقة عن ردود الفعل الرسمية أو الشعبية تجاه الفيلم، ولم تُعثر على مقالات صحفية تتناول هذا الموضوع.
شهادة قيمة لليوم
إعادة ترميم "الأيدي الحرة" تمهد الطريق لتقدير جديد لهذا العمل الرائد. بجمعه بين نقد الاستعمار والاحتفاء بقدرات الجزائر البشرية والاقتصادية، يبقى الفيلم نموذجًا للسينما الملتزمة. عرضه في المعهد الفرنسي بالجزائر (تلمسان) تلاه نقاش مع مالكة ليشور، مما يعكس الاهتمام المتزايد به من قبل الأجيال الجديدة.
اليوم، يُعرض الفيلم في المهرجانات ويعتبر أداة تعليمية هامة. تدعو مالكة ليشور إلى نشره في الجامعات والمؤسسات الثقافية، مؤكدة أنه فيلم أساسي لفهم تاريخ الجزائر وتحديات التحرر من الاستعمار على المستوى العالمي.
بأبعاده التاريخية والجمالية والسياسية، يشكل فيلم "الأيدي الحرة" علامة فارقة في تاريخ السينما الجزائرية والعالمية، ويذكّر بقدرة السينما على أن تكون وسيلة للذاكرة والمقاومة.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 28/11/2024
مضاف من طرف : chouhada
صاحب المقال : Hichem BEKHTI