الثّقافة المرورية ضعيفة لدى السّائقين والرّاجلين أكّد الدكتور عمار مانع الذي يشغل منصب مدير معهد العلوم الاجتماعية والانسانية بالمركز الجامعي لتيبازة على أنّ الحد من انتشار ظاهرة حوادث المرور ببلادنا يقتضي إجراء دراسات معمّقة من طرف مختصين تعنى بتحديد الأسباب الحقيقية التي تقف وراء الظاهرة، من منطلق كون نفس الجزائري الذي يعزف عن احترام قانون المرور ببلادنا يتأقلم بسرعة البرق مع القوانين الأجنبية حينما يسافر الى بلدان أخرى، ومن هنا تطرح عدّة علامات استفهام. هذه النقاط وأخرى يتحدث عنها الدكتور عمار مانع في هذا الحوار. الشعب: بالرغم من تكثيف حملات التحسيس والتوعية في أوساط المواطنين إلا أنّ حوادث المرور لا تزال تصنع الحدث اليومي، فما أسباب ذلك؟ الدكتور عمار مانع: في الواقع هي مأساة يعيشها المجتمع الجزائري يوميا، ونتائجها تبقى بذلك وخيمة لأنها لا تمس الجوانب المادية فقط ولكنها تترك آثارا نفسية يصعب التحكم فيها، ناهيك عن الخسائر المادية الجسيمة والاعاقات المستديمة والمشاكل الصحية. والمؤسف أن الجزائر تبقى من بين الدول الأكثر تضررا من حوادث المرور بفعل ما تخلفه من آثار بشرية ومادية تلحق بالمجتمع مشاكل، وأنا أعتبر هذه الظاهرة اجتماعية بامتياز وتجد جذورها في ثقافة المجتمع وقيمه، ومن ثمّ فلابد من النظر إليها في إطار شمولي وعدم تجزئتها عن باقي الظواهر الأخرى، حيث أنّ الحادث لا يأتي هكذا من باب الصدفة وإنما يرتبط عموما بظروف اجتماعية معيّنة، وأعتبر بأن المشكلة هنا مردها خلل بارز في المنظومة القيمية؛ أفرز عدم تقدير مستعملي الطريق للثقافة المرورية، ولذلك فعندما نتحدث عن الحملات التحسيسية سواء تعلق الأمر بحوادث المرور أو غيرها فالواقع يشهد بأنّ الاستمرارية والتواصل لا أثر لهما على أرض الواقع، ولا أثر للنتائج المتوخّاة منها بفعل الارتباط الوثيق القائم بين ما يحصل في الواقع والمنظومة القيمية التي تعاني من خلل لم يتم جبره بعد. معنى هذا أنّ ثقافة التواصل غائبة تماما في مجتمعنا؟ فعلا تبقى قضية التواصل مطروحة بحدّة في مثل هذه الحالات لأنّ المتلقي لا يجد خطابا مقنعا وذو مصداقية، بحيث يستمع المتلقي الى صاحب الخطاب دون بذل أي جهد يتعلق بالالتزام بما يقتضيه، والسبب في ذلك يكمن في كون الخطاب المستعمل في الحملات التحسيسية لا يستند الى أبعاد إجتماعية ونفسية وثقافية، ولا يزال عبارة عن حملات ميكانيكية اعلامية خالية من الروح، في حين أنّ الأمر يقتضي هنا الاعتماد على دراسة موضوعية ومتأنية للأسباب الحقيقية للحوادث، والتي لا يعرفها العام والخاص، وإنما يدركها المختصون في علمي النفس والاجتماع، الذين يمكنهم الاجابة عن مختلف الأسئلة المتعلقة بالحوادث. والأسباب المؤدية مثلا الى تهوّر السائق ولجوئه لاستعمال السرعة أحيانا الممهلات العشوائية التي ليس لها معنى ولا تقام على أسس تقنية سليمة وكذا الطرقات المهترئة، وأنا أعتبر ما يربو عن 60 بالمائة من طرقاتنا مهترئة بما في ذلك الطرق السيارة التي تتميّز بها الجزائر عن غيرها من الدول بنصب ممهلات عشوائية عليها، مع الاشارة هنا الى أنّ الوسائل الردعية المستعملة من طرف الجهات الأمنية وهناك العديد من أصيبوا بصدمات نفسية نتيجة سحب رخصة السياقة، إضافة إلى دفع غرامة مالية في حين نجد هذا السائق يعاني من الممهلات العشوائية، وهي في الواقع عبارة عن «جبال» تقام دون ادنى احترام للمقاييس المعمول بها عالميا لنصب هذه الممهلات، وكذلك ما تتسببه من ضرر للمركبة. معنى هذا أنّ السرعة تبقى مجرّد نتيجة حتمية للأسباب الحقيقية التي تقف وراء الحوادث؟ نعم هناك عدّة أسباب حقيقية خفية تأتي في مقدمتها ضعف الثقافة المرورية لدى السائقين والراجلين على حدّ سواء،وهي الثقافة التي يجب أن تعطي الحق للسائق وللراجل على حد سواء وفق منهج تربوي سليم دون أن يعتبر أيّ منهما بأنّ الطريق هي ملكه. ومن تداعيات هذه الظاهرة أن لا يجد السائق المحيط الملائم لتطبيق قانون المرور بحذافيره بالنظر الى عدم التزام مختلف المتعاملين بنقاطه ومحتوياته، فالقانون يؤطر مرور الجميع وليس السائقين لوحدهم، ومن الأسباب أيضا ضعف التنشئة الاجتماعية عندنا وهي تعنى بطبيعة وماهية الثقافة المرورية التي نعلمها لأفراد مجتمعنا، والالعاب الالكترونية المختلفة والأفلام ومختلف نماذج الاشهار التي تعرض لأطفال مجتمعنا، تضعهم جميعهم في بيئة مناسبة لاكتساب خصوصية السرعة والاعتقاد بأنّنا نعيش فعلا عصرا للسرعة، الامر الذي ينعكس سلبا على سائقي السيارات. وهذه الظاهرة تؤكّد بما لا يدع مجالا للشك بأنّ البحث عن الأسباب الحقيقية للحوادث يجب أن يتكفل به مختصون اجتماعيون ونفسانيون حتى يتم وضع اليد على الجرح بشكل مباشر كخطوة لابد منها للشروع في عملية العلاج، وهناك أمر آخر مهم جدا يجب الوقوف عنده هنا، ويتعلق بظاهرة إقدام البعض على التخلي عن نفاياتهم عبر الطرقات انطلاقا من نوافذ سياراتهم الفخمة أحيانا، الأمر الذي يؤكّد ضعف الثقافة البيئية لدى الفرد الجزائري بالرغم من كونه ينتمي كذلك إلى فئة الأثرياء أحيانا، وهذا دليل قاطع على ضعف التنشئة الاجتماعية السليمة والشاملة لكل مناحي الحياة، وهو الأمر الذي ينعكس سلبا على الثقافة المرورية، بحيث نرى في الواقع سائقين يتوقفون حين يحوزون على حق المرور وآخرون يمرون مباشرة بالرغم من كون الاشارات المرورية تمنعهم من ذلك، ومن هؤلاء من نجدهم يملكون مدارس السياقة التي تحضّر الفرد للحصول على رخصة السياقة، ومن ثمّ فلابد من انتقاء القائمين على هذه المدارس.الإجراءات الحالية قاصرة بهذه المعطيات، هل تكفي عوامل الردع والتوعية والتحسيس لوضع حد لحوادث المرور أم أنّه لابد من الاستنجاد بإجراءات أخرى مكملة على أرض الواقع؟ ما يجب التأكيد عليه هو أنّ الاجراءات المعمول بها الى حدّ الآن تعتبر قاصرة وغير مجدية، والجانب الردعي منها يبقى قمعيا وعقابيا، ولم يرق بعد الى مستوى الفعل التربوي البيداغوجي،ولكن الذي أراه قد يساهم ولو جزئيا في حلّ هذه المعضلة هو قانون المرور الحالي، والذي يتعلق بخصم النقاط من السائق عند ارتكاب المخالفة، غير أنّ ذلك لن يكون كافيا في حدود نظري إذ أنّه لابد من تشكيل مرصد وطني للمرور عبر الطرق تتشكل تركيبته البشرية من خبراء في علمي الاجتماع والنفس، ومختصين في تقنيات النقل والمرور والمركبات تعهد له مهمة البحث والتحقيق في خلفيات وقوع حوادث المرور من خلال تشخيص طبيعة العنصر البشري المتسبب في الحوادث من حيث السن والجنس والمستوى الثقافي والنشاط المهني وغيرها، ناهيك عن البحث في طبيعة الطرق التي تتسبّب في الحوادث والطرق المؤدية إليها ضمن مسعى شامل بوسعه الالمام التام بخلفيات الحوادث المرورية، كما أنّه لابد من إعادة النظر في تسيير مدارس السياقة بالتشديد على طبيعة ومنهجية عملها مع اقتراح ربط وظيفتها بمراكز التكوين المهني لاسيما حينما يتعلق الأمر بسائقي النقل العمومي سواء تعلق الامر بنقل الاشخاص أو نقل البضائع بحيث يجب التأكد من سلامة الشخص الفكرية والعقلية قبل منحه رخصة السياقة. وأنا أطالب أيضا بإدراج الثقافة المرورية ضمن البرامج الدراسية لمختلف الأطوار التعليمية على غرار ماهو حاصل مع مادة التاريخ أو العلوم الاسلامية. ولماذا بلغنا هذا المستوى المتدني من الثقافة في طرقاتنا؟ مجتمعنا له طبيعية ريفية لا يملك ثقافة وسلوك المدينة والتمدن لاسيما خلال الفترة الأخيرة التي أعقبت الأزمة الأمنية التي مرت ببلادنا، وبذلك فقد طغت ثقافة العرف على الثقافة الرسمية مما فتح الباب واسعا أمام الفوضى المرورية، والجهات الرسمية مطالبة بتأطير الثقافة العرفية عن طريق اعتمادها أو ردعها من خلال قانون رسمي صارم، ونحن اكتسبنا مع مرور الزمن عدوى الفوضى لدى الراجلين و لدى السائقين أيضا وحتى لدى غيرهم من مستغلي الأرصفة كالتجار وغيرهم، الذين يستغلون الأرصفة لأغراض غير التي أنجزت من أجلها واستفحلت هذه الظاهرة بشكل لافت في السنوات الأخيرة ممّا شكّل عبئا ثقيلا على الحركة المرورية التي أفرزت تناميا مفرطا لحوادث المرور نتيجة استعمال الرجلين للطريق بدل الرصيف. وبحكم زيارتي العديدة الدول المختلفة عبر العالم فقد اكتشفت بأنّ الرصيف يعبّر فعلا عن مدى تقدّم وحضارة المجتمع، الأمر الذي لم يلق الاهتمام المطلوب بمختلف مدننا نحن. بالنسبة لاستعمال الدراجات النارية، يعتقد بأنّ انتشارها يرتبط حتما بالتنصل من الاختناقات المرورية، أليس الامر كذلك؟ لاحظت في عدّة دول آسيوية انتشارا مذهلا للدراجات النارية والهوائية تفاديا للازدحام وتلويث المحيط وهذه قضية حضارية، ولكن الأمر عندنا يختلف تماما فمعظم الدراجات المستعملة بطرقاتنا تُستغلّ لأغراض غير حضارية على الاطلاق، بحيث يلجأ بعض مستغليها الى نزع الصامت منها لجعلها أكثر إصدارا للأصوات المزعجة ويصبح الامر أكثر إزعاجا حينما يتعلق الامر باستعمالها على مستوى الأحياء السكنية حينما يستغلها بعض الشباب لغرض البروز والتفاخر أمام غيرهم ليس إلا، وكثيرا ما تستغلّ لتنفيذ عمليات سرقة أو إعتداءات مباشرة على الغير، ولذلك فلابد من تدخّل الجهات المعنية لتأطير استعمال هذه الوسيلة وفق معايير سليمة لا تجلب الضرر للغير. تكلّمت كثيرا عن طبيعة المرور عبر الطرقات بالخارج والتي تختلف تماما عن طرقاتنا، فهل يرق المواطن الجزائري للتأقلم مع هذه الوضعية حينما يزور هذه البلدان؟ حينما يلتحق أي جزائري ببلدان أخرى فهو يجد نفسه مجبرا وبغير نقاش على التأقلم السريع مع القانون المعمول به هناك، ويصبح في فترة زمنية محدودة شخصا صالحا وعارفا بكل الخبايا التي تقتضيها الثقافة المرورية، وحينما تسأله عن سرّ هذا التحول فهو يؤكّد لك بأنّ المحيط والبيئة يختلفان والتعبير عن ثقافة راقية، وهذا دليل قاطع على أنّ الخلل المرتبط بكثرة حوادث المرور عندنا له علاقة بالحضارة والتمدّن، وهو بحاجة ماسة الى اعادة النظر في الاستثمار في العنصر البشري وفق المنظور الذي يرفع من قيمة القيم الوطنية التي ضحّى من أجلها الشهداء. كلمة أخيرة للجمهور. نحن نعيش حاليا مشكلة حضارية برزت من خلالها ثقافة الانتحار التي يتبنّاها بعض المتسببون في حوادث المرور، وباستفحال هذه الظاهرة فلابد على الجهات المعنية إعادة النظر في ما يسمى بالاستثمار في العنصر البشري عن طريق رسم منهجية شاملة للتنشئة الاجتماعية المرورية لمختلف الفئات دون التركيز على فئة الأطفال لوحدها، وبدون إحداث قفزة نوعية في ثقافة المجتمع من حيث التحضّر والتمدّن، فلا يمكن الحديث أساسا عن حلّ إشكالية حوادث المرور أو غيرها من المشكلات الاجتماعية البارزة.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 16/01/2017
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : علاء ملزي
المصدر : www.ech-chaab.net