الجزائر

ألجي... ألجيري (14)



القطار يسير، يسير، يسير، يتلوى كالحبل، يسبح كالحوت الكبير في ماء البحر ونحن، وكل هذا الخلق في جوفه.. يرتدون ألبسة مختلفة، رمادية، زرقاء، حمراء، خضراء، رسمية وغير رسمية... أولئك الجنود يتحدثون بأصوات مسموعة، يقهقون، يتثاءبون. جندي آخر، كان يضع كاسكيطاته الخضراء على رأسه فبدا كالجندي وهو يتناول الكاسكروتة في ذلك الصباح المبلل بالندى والصقيع..آخرون يدخنون على صباح ربي، والصفير يشق الأجواء، يتعاظم السير ويتسارع الإيقاع، وتبدو خلف الزجاج الروابي والجبال المتحركة خلف الضباب الكثيف، ويسقط الليل تحت أقدام النهار المتناهي، بل الزاحف والجاف.. وهي في صورة شبقة لا تأبه بأحد، ولا بتلك العيون المثقلة ببقايا نعاس متقطع، وسهاد مرهق، تجذب أنفاسا حائرة من سيجارتها المبللة هي الأخرى بالرطوبة.. قرطان أبيضان في أذنيها.. ودائما صدرها يرهف بتينك البرتقاليتين اللتين عصرت إحداهما عصرا في تلك الليلة المثيرة وذات المذاق الغريب.. ظل ذلك المشهد يسكنني حتى النخاع لسنوات.. ورغم ذلك العنقود المشكل من النجوم اللامعة والمتراقصة الذي أينع في رأسي وأنا أشد على برتقالتها وأتذوق بلساني المستعر جسدها المالح لم أقذف، وإن تملكني ذات الشعور عندما تتحول الرغبة إلى حريق مهول يفقدك عقلك وتوازنك... كانت تلك الحالة التي عشتها مع فتاة العفرون فريدة من نوعها تتراوح ما بين لحظتين، لحظة الروح ولحظة الجسد، أوقل لحظة الملاك ولحظة الشيطان، وكنت حائرا بين أن أكون ملاكا وشيطانا في الآن ذاته، أن أكون ملاكا شيطانيا أو شيطانا ملائكيا.. والشيطان ليس بالضرورة أن يكون رمزا للسوء والإنحطاط والشر والسواد، وليس بالضرورة أن تكون له صورة مليئة بالتقزز والبشاعة ومثيرة للإشمئزاز والبشاعة، وله قرنان مغروسان على طرفي رأسه وشعر كثيف يملأ وجهه. وكذلك الملاك ليس بالضرورة أن يكون صبيا يحمل جناحين أبيضين وكأنه يسبح في السماء، كلاهما قد يكونان يجمعان بين الجمال الباهر والقبح الفصيح وتنصهر في بوتقتهما أو جسديهما أو روحيهما ملذات المتعة الروحية ومتعة الشهوات الحسية في تزاوج وتوافق وتناغم وانسجام.. رجل سمين، ذو كرش متدلية وعينين منتفختين يرتدي معطفا أسود باليا، ذو أنف غليظ وفم كبير، يحمل حقيبة منتفخة، راح يقترب من العفرونية وهو يكاد يلتهمها بغضب وعنف، لكنها بدت كاللامبالية تجاهه وتجاه كل تلك العيون التي كانت تنظر إليها نصف نظرة... راح يتحدث إلى صاحب له بصوت مرتفع ومشوش.. وكان ذلك الرجل البدين من العفرون.. كان يعرف عمها، قالت فتاة العفرون إنها تعرفت عليه منذ الوهلة الأولى، لكنها أصرت على تجاهله وألصقت في عينيها نظرات كلها قسوة وإنكار، لأنها لم تكن تطيقه، ولم تكن ترغب أن يفتح معها كلاما.. وعرفت فيما بعد أن ذاك الرجل البدين كان جارهم، وكانت تربطه بهما علاقة وطيدة، فكلاهما كان مناضلين في الحزب الواحد، وكلاهما كان معروفين على مستوى العفرون وأطرافها في عالم الطرابندو.. لكن الحقيقة التي قالتها الفتاة العفرونية لي بشكل ملتو وغامض أنه كان أقلق أمها لوقت طويل للزواج بها بعد مصرع والدها في تلك الأيام، أية أيام؟! هي لا تريد أن تحكي عنها كثيرا، فقد كانت صغيرة، لكنها مع ذلك محفورة في ذاكرتها. لقد جن جنون العقيد هواري بومدين، الذي حكم الجزائر من جوان 1965 إلى أن رحل على الدنيا إثر مرض غامض في ديسمبر 1978، عندما حاول العقيد الطاهر الزبيري الإنقلاب عليه، وفشلت المحاولة، وراح بومدين يلاحق أنصار غريمه في كل مكان، وكان والدها المجاهد القديم والصديق السابق لبومدين والطاهر زبيري ممن انضموا إلى الزبيري.. تقدمت قوات بومدين إلى العفرون، وحاصرت جبالها واستمات والد فتاة العفرون إلى أن غادر الحياة وهو خرقة ممزقة في بركة من دم.. يقال إن الرجل البدين، المضارب هو من دل قوات العقيد هواري بومدين على تلك الأحراش التي كان يربض فيها الرائد ميسوم، وهو الإسم الحركي الذي عرف به في حرب التحرير والد فتاة القطار الليلي، فتاة العفرون.. يتصاعد الدخان من فمها، أتكون جميع الفتيات العفرونيات، مثلها يسكنهن الخبل والشبق واللامبالاة؟! انطلقت قهقهة مدوية وخبيثة من أعماقها عندما رددت على مسمعها مثل هذا التساؤل البليد، لقد زرتها شهورا من لقائنا الأول وليد الصدفة الإلهية إلى المستوصف الواقع غير بعيد عن وسط العفرون، حيث تشتغل ممرضة، لكن كل من في المتوسف ينادونها بالطبيبة، ولاحظت أنها تحبذ ذلك، وتشعر بالفخر كونهم يعتبرونها طبيبة.. واكتشفت في زيارتي الثانية لها أنها ليست مجرد فتاة نزقة، فتاة مجنونة تشتهي المغامرات الغامضة والخطيرة، بل كانت كذلك فتاة أخرى، إمرأة من طراز آخر نقيض، ذات نظرات صارمة وأعصاب باردة، وصوت متزن وعفاف تلبسه في حينه مثلما يلبس المرء القناع المناسب في الزمن المناسب، شعرت بالإرتباك عندما دعتني إلى منزلهم، نظرت إلي وقذفتني بابتسامة متعالية وخبيثة في نفس الوقت، "لا تخش شيئا، لا يوجد في المنزل سوى أمي.."، تشجعت وسرت بجنبها ونحن نتجه إلى منزلهم، عبارة عن بيت قديم في قلب شارع قديم تحاصره الحوانيت الصغيرة والبيوت الحجرية المزدحمة والمتراصة، وتنبت على يمينه بعض الفيلات الشمطاء العنيفة التي لها قدرة عجيبة في تشويه كل ما حولها من أمكنة، طرقت الباب ففتحت لنا الباب امرأة لا تبدو متقدمة في السن.. بل يصعب عليك إعطاءها سنا معينا، تشبهها من خلال ملامح الوجه بشكل مدهش، لكنها تملك جسدا رائقا، متينا وعلى قدر كبير من التناسق.. فتيحة، كان اسمها فتيحة.. تحمل نفس اسم ابنة خالتي الكبرى التي كنت أشعر وأنا صغير تجاهها بجاذبية لم أفهم إلى الآن كنهها، وتجذر مثل هذا الشعور يوم سمعت أنها توفيت إثر ولادة فاشلة، وما زاد من خلوده أنني لم أذهب لإلقاء نظرة أخيرة عليها.. والآن؟! فتيحة الأولى أكلها الدود، التهمها عن آخرها.. مجرد ذكرى عتيقة لكنها دون شك حية في محفظة ذكرياتي القديمة.. قبلتها وأجلستني في غرفة معطرة وكانت فرحة، وفتاتي العفرونية تروي لوالدتها كيف تعرفنا على بعض ذات يوم في محطة القطار بسيدي بلعباس، وكيف اعتنيت بها طوال الليلة المليئة بالظلام والصفير وأنفاس الرجال والأشباح، وبتلك اللحظات المدوية التي لا يمكن نسيانها أو رميها في مزبلة الأيام المنقرضة..


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)